نُعاني في الوطن العربيّ آفةً تُهدّد علاقات السلام والتسامح بين الدول والشعوب المختلفة، بل وأواصرَ المواطنة داخل الوطن الواحد، ألَا وهي التعميم، الآفة القديمة الحديثة. تعميمات تتناقلها الألسن، فأهل تلك البلد معروفون بكذا، وأهل البلد الأخرى معروفون بصفة أقبح من الأولى. أوصافٌ تُعطى وتُعمّم في شعوب أو في طوائف دون وجه حقّ، وحقيقة الأمر قد لا تتعدى تجرِبة فرديّة، نشَرَها صاحبُها وكأنّها دستور.
ظهر التعميم في أقبح صورِهِ مع انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي، حيث يكفي أنْ يَخرج شخص غير معروف الانتماء أو الأهداف، لِيَسبّ دولة أو طائفة، حتّى تُصبح الدولة أو الطائفة التي زعم هذا الفرد أنه ينتمي إليها، كلُّها في قفص الاتّهام، ويَخرج اللعّانون والشتّامون لينعتوا أُناسًا لا شأن لهم بالحدَثِ، سوى أنّ شخصًا ادّعى انتماءَه إليهم أساء للآخرين، وقد يكون الفرد نفسه غير ما يدّعي، وقد يكون مدسوسًا لزرع الفتنة وإثارة البلبلة. فتاريخنا مملوء بهذا النوع من المدسوسين، إلّا أنّنا في كلّ مرّة نقع في المصيدة نفسها.
الأمر نفسه ينطبق على مختلفي الأديان. فإنْ شارك أحدُهم فردًا من ديانة معيّنة في تجارة أو عمل، ولمَسَ منه نقصًا في الإخلاص أو الأمانة، ذهبَ لِيَنعت مُتَّبِعِي الديانة كُلَّهم بعدم الوفاء والإخلاص، أو لِيَنشر خلاصة تجرِبته وكأنّها قابلة للإسقاط على كلّ حالة مشابهة، فضلًا عن بعض الإشاعات التي يطلقها أصحاب النوايا السيئة من باب "فَرِّق تَسُد"، والتي لا تمُتُّ إلى الواقع بصلة، كأنْ يقال مثلًا: "لا تأكل عند هؤلاء؛ فإنهم يُلوِّثون الطعام قبل تقديمه لك"، أو "إنهم جميعًا منافقون، ويُضمرون لك السوء"، والكثير من الإشاعات التي لا أساس لها من الصحة، ولا تهدف إلا إلى مزيد من الكراهية.
لقد شاعَتْ في قديمنا حروبٌ، أَشعَلَ فتيلَها حدَثٌ فرديٌّ أو خلافٌ شخصيّ، فحصدَت آلاف الأرواح البريئة، التي لا ذنب لها سوى أنّها كانت تابعةً لأفراد، في مجموعات مُسيّرة لا تستطيع الخروج من دائرتها. ولعلّ أكبر مثال على تلك الحوادث، معاركُ الثأر التي يذهب ضحيّتها أفرادٌ، لا لذنبٍ ارتكبوه، بل لِصِلة قرابةٍ بقاتلٍ لم يكن لهم أيّ يدٍ في فعْلَتِه، ما يتنافى معَ الشرع والعقل والمنطق السليم.
ما أسهلَ التحزُّبَ والتّعَنصُر في بلداننا العربيّة. هتافٌ فوق أحد مُدرّجات ملعب في أثناء مباراة كرة قدم، قد يُشعل حربًا كلاميّة بين الدول تستمرُّ لشهور، حيث تَستعرُ نار الكراهية والحقد بين الشعوب، معَ وجود إعلام غير واعٍ يصبُّ الزيت على النار، من باب رفع مُعدّلات المشاهدة والربح.
حوادث التعميم عينُها، نراها عندما يرتكب وافدٌ من جنسيّة مُعيّنة في بلد الإقامة جُرمًا ما، فيَجري وصْفُ كلّ الوافدين مِن جنسيّته بأبشع الأوصاف، مُتناسين أنّ مُقابل هذا الشخص، هناك مئاتٌ بل آلاف لم يظهر منهم سوى الإخلاص في العمل والتفاني فيه، وعملوا سنوات طويلة، وعادوا لأوطانهم دون أن تشُوبَهم شائبة. وأيضًا العكس صحيح، فإنْ ظُلِمَ وافدٌ في غير أرضه، فهذا لا يَعني أنّ كلّ مَن ينتمي إلى هذه الأرض ظالم، وإنما هو فرد، وعملُه السيّئ يعود عليه وحده.
نحنُ كعرب تجرَّعنا كأس التعميم المرّ بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001، وما تلاها من أعمال إرهابيّة طالَت أبرياء في أرجاء العالم كافّة. لقد أصبح الفرد العربيّ أو المسلم في بعض البلدان، متّهمًا إلى أنْ تثبت براءته، وأضحى الكثير منّا ضحايا للتنمّر في المدارس والشوارع في بعض الدول. فمِن المُعيب أن نسقيَ غيرَنا، ما ذُقْنا نحنُ أنفسنا مرارَتَه.
نحن في زمن تنتشر فيه الشتيمة أسرع من أيّ وقتٍ مضى، بل تُقام مِن أجلها "الهاشتاجات"، وتتصدّر "الترند"، لتَكشِف التعنصر والتعميم في أقبح صورهما. التعميم علّةٌ فكريّة، ومرضٌ عُضال، يُهدّد جسد الأوطان وعلاقات التآخي بين الدول والشعوب، والوقوف في وجهه حكمةٌ. إنّ المُجرمَ الذي ارتكب جريمة بشعة، هو شخص ضالٌّ لا يُعاقَب على جُرمه إلّا هو، وهذه أساسيّات العدالة وأخلاقيّاتها. كذلك الشخص الذي صوّر "فيديو" يشتمُ فيه، لا يُمثّل إلّا نفسه، ومِن الظلم والإجحاف اللذين لا يقبلهما عقل أو دين، أنْ أُعمِّم الردّ في شعب كامل أو طائفة، بدلًا مِن أن أرُدَّ عليه هو كفَرْد.
وحدَهُ الحكيم مَن يقف، حتّى وإنْ كان وحيدًا، ليطفئ حريق الكراهية الذي يُفسد حقول التآخي، والتسامح، والعيش المشترك.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.