يعتمد التفكير النقدي على إثارة التساؤلات حول المقولات الدينية، ومراجعة مضامينها وموثوقيتها في ظل المعرفة العلمية الحديثة. ويقوم هذا التفكير على عملية اجتهادية شاقة ومركَّبة خلافًا للتفكير التقليدي الساذج، الذي يغلب عليه الأحكام المسبقة والتصورات المتوارثة والانفعالات العاطفية.
ومما يؤكد أهمية التفكير النقدي في دراسة المقولات الدينية، أن تلك المقولات ترتكز في إثبات صحتها على جملة من المقولات النقدية للمقولات المخالفة لها. ومن هنا، فإن معرفة الخلل في المقولات الدينية يمثل واجبًا معرفيًّا يرتقي بالفكر الديني ويجعله أكثر انسجامًا مع الحقائق العلمية والتاريخية. فالتناقض داخل المقولات الدينية دليل على وجود خلل في مضمون تلك المقولات، أو في صحة نسبتها إلى مصادرها المزعومة.
هناك أربعة أسس أخلاقية يقوم عليها التفكير النقدي للمقولات الدينية، وهي: الصدق مع النفس في قبول الصواب حيث كان، والعدل في الحكم على الذات بنفس المعايير التي نحكم بها على الآخر، والشجاعة في الاعتراف بالخطأ مهما كان مصدره، والتواضع في عدم ادعاء الاستحواذ على الحق.
يجب على المؤمن العاقل أن يكون باحثًا عن الصواب وحريصًا على معرفة الخلل في مقولاته وتصوراته، فالتفكير النقدي بالنسبة إليه يسير جنبًا إلى جنب مع طلب الحق وتحرِّي أسبابه. إن إعمال العقل في النقد والمراجعة هو حق لكل من بلغ من المعرفة حدًّا يزيد فيه على ما يشيع من المعارف السائدة في مجتمعه، وهو حق غير مقصور على أتباع دين بعينه، وإنما هو لكل ذي عقل سليم.
أدّى ضعف ثقافة التفكير النقدي في كثير من المجتمعات العربية للمقولات الدينية، إلى تضخم خطاب الاستهزاء والتحريض تجاه الآخر الديني، إلى جانب تنامي الفكر الأسطوري تجاه الذات الدينية.
من المفارقات العجيبة المتصلة بالنقد الديني ما نجده لدى كثير من الناس الذين يشيدون بالتفكير النقدي عندما يتجه إلى المقولات الدينية "المخالفة"، في حين يرفضون النقد ويرون فيه خطرًا داهمًا وتشكيكًا مغرضًا عندما يتجه نحو "الذات".
اتخذ التوظيف العَقَدِيّ للتفكير النَّقْدي للمقولات الدينية والفلسفية صيغًا متعددة في التاريخ العربي والإسلامي، وذلك من خلال كتب علم الكلام والملل والنِّحل؛ أما اليوم فإن المطلوب هو الانتقال من صياغة الحجج الجدلية والردود الدفاعية، إلى بناء منهج تفكير نقدي يسهم في دراسة المقولات الدينية في سياقاتها الاجتماعية والثقافية. يدَّعي كثير من خصوم االتفكير النقدي أن نقد المقولات والأفكار الدينية هو نقد للدين كله، وهذا ما يجعل مهمة النقد محفوفة بالخوف والإقصاء في المجتمعات ذات الصبغة الدينية التقليدية.
من الضروري التنبه لأثر المشاعر الشعبوية الدينية، التي لا ترى في التفكير النقدي لبعض مقولاتها الدينية سوى جزء من هجمة خارجية منظمة تستهدف الدين ذاته، وهذا ما أدى إلى اتخاذ مواقف دفاعية وانفعالية أغفلت المضمون العلمي للتفكير النقدي وأخرجته عن غايته العلمية المطلوبة.
إن عقيدة الناقد وهويته الدينية ليْستَا معيارًا لصحة نقده وقوة برهانه، فالعبرة هي بصحة المقولة النقدية ذاتها. وكما أن المقولات الدينية ليست جميعها صحيحة فكذلك ليس كل نقد تجاه أي مقولة دينية يجب أن يكون صحيحًا بالضرورة، فلا عصمة للنقد كما لا عصمة لما يقوله الناس من مقولات، دينية كانت أم دنيوية.
من غير الممكن للفكر النقدي أن يبلغ غايته المعرفية، ما دامت المقولات الدينية قد بقيت بمنزلة مسلمات بدهية لا تقبل المراجعة، وما دام الفكر الديني قد بقي قادرًا على تسويغ التناقضات وتبرير الازدواجية في المواقف.
لو كان اعتقاد أتباع كل دين بصحة مقولاتهم يبرر لهم قولَ أي شيء تجاه غيرهم من أتباع الأديان والمعتقدات، أو منْعَهم من إظهار نقدهم لمقولات غيرهم، لأدَّى ذلك إلى فساد العقول وتقديس الضلال، وتسويغ الاضطهاد الديني في مجتمعاتنا الإنسانية. وهنا يدرك العقلاء أن "الضلال الأعظم" يتمثل برفض العقل باسم "الحق"، وبقبول الخرافة باسم "الإيمان"؛ وأن إعمال النظر النقدي والتفكير العلمي في تراثنا الديني الإنساني، هو الصيغة المُثلى للخروج من أزماتنا الحضارية الملتبسة بأنماط من الأفكار الدينية الميّتة أو المُميتة.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.