التنوّع واقع يتطلّب موقفًا، والإشكال يكمن في الموقف وليس في الواقع. فمن يتجاهل التنوّع فهو جاهل.
ومن لا يَتحلَّ بفضيلة الإصغاء إلى الآخرين، لِفهم آرائهم والتفاعل معها، والاستفادة من وجهات النظر المختلفة، بل لا يستمع للآخرين إلّا لتأكيد مواقفه ودحض مواقفهم، فهو متعصّب، معصوب الفكر والبصيرة.
ومن لا يُقِمِ اعتبارًا لأفرادٍ وشعوب بسبب اختلافهم القومي أو الإثني أو الثقافي أو اللغوي عنه، فهو عنصري.
ومن لا يَرَ قيمةً روحية إلّا في دينه، ويَقْسم الناس بين أتباع دينه الذين هم على حق، لا بل يحتكرون كل الحق، وأتباع الأديان الأخرى الذين هم على ضلال فهو تكفيري.
ومن لا يَرَ في الوجود إلَّا ما تَعوَّد رؤيتَه، وفقَدَ حسّ الدهشة أمام غنى الحياة ومفاجآتها، ولا ينجذب إلّا إلى ما يشبهه، ولا يُقدّر إلّا ما يتمحور حوله فهو فارغ، لم تجد الحياة مكانًا عنده لامتلائه من نفسه.
لا بل أكثر من ذلك، مَن يَقُلْ بالوَحدة في التنوّع، ولكنه لا يرى التنوّع إلّا من خلال ما اعتبره عاملَ الوحدة الذي حدّده بنفسه، انطلاقًا من رؤيته هو للوجود- فهو أُحاديٌّ شُمولي، وقد يكون توتاليتاريًّا أيضًا.
فالمسألة إذًا ليست إذا كان هناك مِن تنوّع في الأفكار، والقوميّات، والإثنيّات، والثقافات، واللغات، والأديان، والمذاهب، وتجلّيات الحياة، لأنّ كل ذلك من البديهيّات؛ بل المسألة، لا بل المشكلة تكمن في مواقف الناس السلبيّة من هذا التنوّع، والتي تضعهم في خانات الجهل، والتعصب، والعنصرية، والتكفير، والفراغ، والأُحادية، والشمولية، والتوتاليتارية.
يكمن أساس المشكلة في اعتبار بعضِهم أنّ الوحدة هي الواقع، وأن التنوّع هو نقيضٌ أو تهديد لها، أو في أحسن الحالات هو فشل لبعضهم في الوصول إليها. وحيثما طُبّق هذا الموقف، أنتَج قهرًا وفشلًا مَبنِيَّيْن على وَهْم. فمَن نظر على سبيل المثال إلى المجتمع نظرة أُحادية، يسعى لكي يصبح المجتمع بأسرِه متطابقًا مع هذه النظرة، ومِن ثَمَّ يَفرِض نمطًا شموليًّا للحياة لا أُفُق فيه للاختلاف والتنوّع، ولا مجال فيه للحرية والإبداع. ومَن اعتبر وَحدة الوطن قائمة على أساسِ إيديولوجيةٍ شموليّة معيّنة، فسوف تتحوّل الحياة السياسية إلى مبايعة مستمرّة لمن حدّد هذه الإيديولوجية، وإلى قمعٍ لكلِّ من يخالفها. ومَن اعتبر أنّ دينًا معيّنًا يحقق الوحدة للوجود، فسوف يعيش حالة دفاعيّة أو هجومية مستمرّة، تجاه كل من اختلف معه في الرأي والعقيدة، لاعتباره مُنحرِفًا عن الحقيقة والصواب. وحتى في العائلة والمنزل، مَن ربط وحدة العائلة باتباع الجميع لرأي واحد، يجعل من الاختلاف معه قلّةً في النضج، أو عدمَ طاعةٍ للسلطة، التي هي في الواقع تَسلُّط. وفي المدرسة أيضًا، تتجلّى هذه المشلكة عندما يكون التعليم تلقينًا لأجوبة جاهزة عن أسئلة معلّبة، بدل أن يتربّى الطلاب على بناء الأسئلة للتمرّس بالبحث العلمي والفكر النقدي، اللَّذَيْن يُنتجان أسئلةً وإن بقيَت بدون أجوبة نهائية، ولا يقبلان أجوبة لا تجوز مساءلتُها.
المشكلة إذًا تبدأ عندما نعتبر الوحدة واقعًا نمتلكه أو نعيش فيه؛ فيصبح عندها التنوّع أزمة يجب معالجتها، أو خللًا يجب تصحيحه. أمَّا الواقع، فهو أن الوَحدة غاية نصبو إليها ونَبنِيها باستمرار، انطلاقًا من التنوّع الذي هو الواقع، والذي يرفد الوحدة بعناصر تشكّلها. يتحقق ذلك عندما تكون مواقف المؤتَمَنين عليها مزيّنة بالتواضع، والانفتاح، والإيمان بأن الحياة أكبر من أن تُسجن في أيِّ رأي، أو خبرة، أو حتى عقيدة.
إنْ بُنيَت وَحدة العائلة والمجتمع والوطن على الانفتاح على مختلف الآراء، وعلى إسهامات الأفراد، وعلى المكوّنات، لتشكيل رؤية مشتركة تغتني بمقدرات الجميع وعطاءاتِهم، تُصبح المواقف عندها مؤسّسة للشراكة والمشاركة والاحترام والديمقراطية، دون أن تخلو من روح المغامرة أو المجازفة المدروسة. وبهذا، يُصبح الاختلاف مِدْماكًا أساسيًّا في البناء، بدل أن يكون الحَجَر المرذول من الأقوى عدديًّا أو سلطةً.
عندما تعيش الجماعات والمجتمعات مبدأ التنوع الذي يبني الوحدة، تُصبح المعارضة ضرورة، والديمقراطية حقيقية، والحوار منتجًا، ويتحوّل الإيمان إلى أفق للرقي الروحي بدل أن يكون سجنًا في هوية إيديولوجية. بهذا المعنى، تُشبه الوحدة بناءً قيْدَ الإنشاء باستمرار، بدل أن تكون قلعة يختلف الناس في امتلاك مفاتيحها، لسجن أنفسهم فيها، وتعيير الآخرين بأنهّم خارجها.
التنوّع واقع، والوَحدة غاية. فعندما نتعامل معهما بهذا المنطق، نُحوّل التنوّع إلى غنى، ونجعل من السعي للوحدة، مسيرةً جميلة من الشراكة المبدِعة.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.