نشرَت جامعة مونستر الألمانية في شهر أيار/مايو من سنة ٢٠١٦، نتائج دراسة مَيْدانيّة عن تديُّن المسلمين/ات في ألمانيا، قام بها أستاذ علم الاجتماع ديتلف بولّك. وقد ميَّزَت هذه الدراسة بين مسلمي/ات الجيل الأول، أيْ أولئك الذين جاؤوا إلى ألمانيا في الستِّينيّات والسبعينيّات من القرن المنصرم -وأغلبُهم من الطبقة العاملة-؛ وأبنائهم وبناتهم والذين يُطلق عليهم وصف الجيل الثاني.
مِن أهمِّ النتائج الّلافتة للنظر لهذه الدراسة، هو تَزايُد تَماهي أبناء الجيل الثاني -حتى الثالث- بالإسلام، وذلك مقارَنةً بالجيل الأول. وفي ذات الوقت، فإن الأجيال الجديدة لا تُمارِس الدين، ولا تكترث لِلقيم الدينية، كما هو الحال عند الجيل الأول. إنَّ أبناء الجيلَيْن الثاني والثالث، ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أكثر تديُّنًا من الجيل الأول، وأن الإسلام يلعب في حياتهم دورًا مهمًّا، أكثر ممّا هو عليه الحال عند الجيل الأول. ومِن العجيب، أن أبناء الجيل الأول يوافقون على هذا التقدير، مع أنهم وَفْق الدراسة نفسها، أكثر التزامًا لِلقيم والشعائر الدينية.
إذًا، نحن هنا أمام ظاهرة تَحوُّلٍ في مفهوم التديُّن، تتميز بنوع من تفريغ الدين من محتواه الروحاني والقيمي الأخلاقي، مع تفعيل دوره كهُويّة لأجيال تعيش كأقلِّيّات في الغرب، وتَشعر بنوع من الاضطهاد؛ ما يجعل عملية التَّماهي بين هذه الأجيال والهُويّات الوطنية لبلادهم الجديدة في أوروبا، عمليّةً معقَّدة، كثيرًا ما تنتهي بالفشل. ثم إن التَّماهي بالوطن الأمّ، أيْ بِوَطن الآباء والأجداد في الشرق، أمرٌ صعب أيضًا، حيث الهُوَّة الثقافية -وضِمْنها اللغوية- كبيرة.
هنا، يأتي دور الدين ليَسدَّ ثغرة الهُويّة المفقودة. فيصبح التديُّن ليس بحثًا عن الله، وليس بحثًا عن علاقة روحانية به، وليس بحثًا عن تجربة إيمانية، وليس مَنبعًا أخلاقيًّا، وليس مِرآة للتأمل في الذات، وللتعرُّف إلى خيرها وشرها، ومِن ثَمَّ العمل على تزكيتها؛ بل يصبح التديُّن مجرَّد مَلجأٍ إلى البحث عن هُويّة جمْعيّة: "نحن المسلمون/ات"، مُقابل "الآخرين غير المسلمين/ات".
تَكمن المشكلة فيما يخصُّ سؤال التعايش في مجتمع تعدُّدي. فالهُويّة المُفْرَغة من محتواها، لن تكون قادرة على أن تُعرِّف بنفسها، بأن تقول: "مَن أنا؟"، بل ستحتاج إلى الآخر كي تقول: "أنا الذي لستُ ذلك الآخَر". إذًا، هي تحتاج إلى الآخر لتعريف ذاتها. ولذلك، سوف تنظر هذه الهُويّة إليه على أنه العدوُّ، الذي لا بد من البعد عنه، كي لا يلتهمها. فهي مجرَّد هُويّة مُفرَغة، لا تثق بنفسها. لذلك، تخاف القرب من الآخر، وسوف ترفضه، وترى فيه فقط ما هو سلبيٌّ. لذا، مِن أهمِّ شروط قبول الآخر وقبول التعددية الفكرية والدينية، الثقةُ بالذات، والتي ستمكِّن الإنسان من التواصل مع الآخر تَواصلًا مثمرًا. والثقة بالذات، تعتمد أوّلًا على التعرف إلى هذه الذات.
إذًا، الطريق يبدأ لديَّ -كمُسْلم(ة)- بطرح السؤال: ما الهُويّة المُسْلمة؟ وما الذي يجعلني أقول إني مسلم(ة)؟ إنَّ مجرَّد الجواب الدوغمائي على هذا السؤال، لن يحلَّ المشكلة، لأنه سيكون جوابًا نظريًّا بعيدًا عن الواقع المَعِيش. ولقد فرَّق القرآن بين مجرَّد الانتماء إلى دين الإسلام انتماءً اجتماعيًّا، والانتماءِ إليه كممارسة إيمانية، تصِلُ أعماقَ القلب، وتجعله ينبض بالحبِّ والرحمة: {قالتِ الأَعرابُ آمَنَّا، قُلْ لم تُؤْمِنوا ولكِن قولوا أسلَمنا ولمَّا يدخلِ الإيمانُ في قُلوبكم} [الحُجُرات: ١٤].
اختزال الإسلام على أنه مجرّد مَلجأٍ إلى الهُويّة، يَحمل خطر تفريغه من محتواه الروحي. فتحتلُّ حينها القشور والمظاهر مكان الروحانيات والمبادئ الأخلاقية، ويُصبح التديُّن الشكلي أهمَّ مِن ذلك التديُّن القلبي العميق. ولعلَّ مشكلة الهُويّة الدينية، ليست مقتصرة على المُسْلم(ة) في الغرب، بل هي مشكلته(ها) أيضًا هناك، حيث يَغيب العمق الفكري والروحي، سَواءٌ عاش في الشرق أو في الغرب. وهناك، حيث يسُود الخطاب الفِقهي البَحْت، والذي يُحوّل الدين إلى منظومة حقوقية، سوف يَغيب العمق الروحي للدين، لأن القوانين سوف تأخذ قُدسية الإله، فتصبح هي المعبودة وهي الهدف، ويصبح همُّ المُسْلم(ة) البحث عن الفتوى الصحيحة، أو عن أكثرها صحّةً. ولكن، مَن سيبحث عن الله، وعن القرب منه؟
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.