يتأثر الإنسان بالعُرف الجمالي السائد في بيئته الثقافيّة والجغرافيّة، كما يؤثر هذا العرف في مشاعر الإنسان ودوافعه الإيمانيّة، فجمال الإبل والنخيل وسقوط الأمطار يمثِّل عند العربي في الجزيرة العربية مدخلًا إلى الإيمان ببديع صنعة الخالق. ويحرّك الإحساس بالجمال في نفس الإنسان رغبة عميقة في البحث عن مصدر الإبداع والتكوين.
لما كان الإيمان في حقيقته رحلة بحث عن السلام والطمأنينة، فإن المؤمن الحق هو من يرى الجمال في كل شجرة خضراء، وصخرة صماء، وفي عيون الأحرار والأبرار من أي ملة كانوا. عندما يبتعد الإيمان عن الجمال فإنه يفقد روحه، كما يفقد الجمال غايته عندما يقتصر على ملامسة مظاهر الطبيعة، دون الولوج في المعاني الكبرى للجمال.
من طبائع البشر أن يروا ما يؤمنون به جميلًا. فالإيمان في جوهره يبقى جميلًا مهما كان ساذجًا وطفوليًّا؛ أما المعوَّل عليه في التفاضل بين الناس، فهو ما يتركه هذا الإيمان في الإنسان من جمال في مكارم الأخلاق، ومن رقة في المشاعر والأحاسيس.
يكمن جمال الإيمان في تعبيره عن المعنى الأعمق للحياة، وفي الارتقاء بمعاني الجمال لتبلغ جمال الفضيلة والحرية والعدل.
يخبرنا تاريخ الأديان أن الإنسان قد مرَّ بنوع من تقديس مظاهر الطبيعة التي بهره جمالها، وبعثت في نفسه الدهشة والحيرة، لكنه يخبرنا كذلك أن ذلك التقديس ما يلبث أن يرتقي من جمال الانفعال في الصورة، إلى جمال الفكرة والبحث عن المبدع.
يؤكد القرآن أن الأصل في الموجودات كلها الحسن والجمال. فهي في حقيقتها قد فاضت من الجمال الأعظم {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]. وهذا الجمال الأصلي يؤكد عمق العلاقة بين الخالق المبدع وجمال الموجودات في الإسلام، كما يؤكد القرآن العلاقة الجوهرية بين الجمال وأسماء الله الحسنى "الجميلة"، ومن هذه الأسماء اسم الله "الجميل" كما في قول الرسول الكريم: "إن الله جميل يحب الجمال" (رواه مسلم).
وتزداد العلاقة بين الجمال والإيمان وضوحًا من خلال تسمية الجنة التي تُجسد رحمة الله وعطاءه بالحسنى "الجميلة"، ويبلغ الجمال ذروته ومنتهاه في النظر إلى جمال الله في الجنة {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
وفي الكتاب المقدس يظهر الإحساس بالجمال واضحًا في وصفه عددًا من النساء والرجال بالجمال، كما في وصف سارة زوجة إبراهيم، وراحيل زوجة يعقوب، وأستير، وشولميت، بأنهن جميلات، وقال عن الأخيرة بأنها "جميلة كالقمر" (نشيد الأنشاد 6 : 10). وكما في وصف يوسف، وموسى، وداود الذي "كان جميلًا وأشقر مع حلاوة بالعينين" (صموئيل الأول 16: 12).
هناك علاقة جدلية بين الجمال والقبح، لا تختلف كثيرًا عن العلاقة بين الخير والشر، وهذا ما نلمسه في قول الفيلسوف الصيني لاوتزي: "يرى الجميع في الجميل جمالًا لأن ثمة قبحًا، يرى الجميع في القبيح قباحة لأن ثمة جمالًا".
ومن هذه العلاقة الجدلية يمكن القول بأن النظرة العميقة للقبح تُظهر جمال الحكمة من وجوده، فالقبح كثيرًا ما يكون بمنزلة قشرة شرنقة تحُول دون معرفة جمال الفراشة الكامنة فيها.
عندما يشعر الإنسان بانفصال الفضيلة عن الجمال، فإن ذلك يشير إلى وجود خلل في بنية الجمال أو الفضيلة، مع أن كثيرًا من الناس قد يخفى عليهم اتصال الفضيلة بالجمال. وهذا ما يشير إليه الفيلسوف لاوتزي بقوله: "لم ير قط إنسانًا يحب الفضيلة بقدر ما يحب الجمال".
فالصورة الحسنة مكانها الطبيعي هو الجنة كما جاء في التراث الصوفي، عندما رأى أبو حازم الصوفي أيام الحج امرأة جميلة قد فتنت الناس بحسنها، فقال لأصحابه: "تعالوا ندعوا لهذه الصورة الحسنة أن لا يعذبها الله بالنار، فأخذ يدعو وأصحابه يؤمِّنون" (البهاء العاملي، الكشكول).
إن من يحسن الإحساس بالجمال في مختلف الموجودات، هو أقدر على تذوُّق ألوان الجمال في اختلاف الثقافات والأديان. ومن يملك القدرة على اكتشاف وحدة الجمال مع تعدد أشكاله وصوره، فإنه لا يرى في جمال الطبيعة والمخلوقات سوى قبسة جمال من "الجمال الأعظم" الذي لا يحدُّه شيء.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.