أنا مُحبّ للسلام وملتزمٌ الإسهامَ في بنائه، كواجب إيماني، وهدفٍ يعطي الحياة أسمى معانيها. لكني أشعر بانزعاج كبير أمام المواقف والمقولات التي تتحدّث بالسلام واللاعنف، وكأنهما خياران منعزلان عن الواقع وظروف الحياة والتحدّيات والمآسي، التي تَنتج مِمَّن ينتهجون العنف وسيلة إلى تحقيق أهدافهم، ويسعون للغلبة والاستئثار، بدل العيش مع الآخرين بوئام وسلام.
لقد دعت الأديان إلى السلام، إذ قال السيد المسيح: "طُوبَى لِصانعي السلام، فإنَّهم أبناءَ اللهِ يُدْعَوْنَ" (متى 5: 9). ونقرأ في الحديث النبوي بأن السلام هو السبيل إلى دخول الجنة، إذ قال: "لا تَدْخُلون الجنَّة حتى تُؤْمِنوا، ولا تُؤمنوا حتى تَحابُّوا، أوَلَا أدُلُّكم على شيء إذا فعلتموه تَحابَبتُم؟ أَفْشُوا السلام بينكم" (رواه مُسْلم).
والقولان يدلّان على أن السلام فِعل، وليس مجرّد حالة نتبنّاها. فالسلام "يُصنع" ويُبنى" ويَجري "إفشاؤه" ونشره بجهود الناس. ولذلك، مِن الأصح أن نربط السلام بالجهاد، بمعنى السعي القوي والمستدام لتحقيق الشيء، مع ما يتطلّب من جهود وتضحيات ومثابرة وثبات، بدل ربطه بمواقف سلبيّة تُشبه الخنوع والضعف والاستسلام.
أنا من مؤيّدي اللاعنف كمنهج للتعامل مع تحدّيات الحياة، والسعي للحقوق وحلِّ النزاعات. ولقد قدّم إلينا القرنُ العشرون نماذج بهيّة من بُناة السلام، والمدافعين عن الحقوق عبر اللاعنف. أبرزُ هؤلاء غاندي في الهند، الذي استطاع مواجهة سلطة الاستعمار والانتصار عليها، ومارتن لوثر كينغ في أميركا، الذي نجح في مواجهة التمييز العنصري وتحقيق المساواة، ورفع الظلم عن فئة كبيرة من المواطنين. ولكننا نشهد أيضًا في تاريخنا المعاصر والراهن، محاولات أخرى عديدة لإحقاق الحقِّ والمطالبة بالعدل بالوسائل السلميّة، لم تنجح؛ بل تحوّلت إلى حروب وصراعات أهلية وقمع دموي، وزادت من سطوة الاستبداد.
فالسلام جهاد، وليس في حالة ثابتة، بسبب وجود الظلم والشر كجزء واقعي من الحياة. وتتبيّن صعوبة المسألة عندما نكون في مواجهة مباشرة مع المعتدي. لقد كان ردّ فِعل النبي إبراهيم عندما هدّده أبوه بالطرد والرجم، بسبب إيمانه، التمسّك بالسلام وطلب الاستغفار للمعتدي: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]. يلفت انتباهي أيضًا في هذا السياق، موقف السيد المسيح عندما صفعه أحد جنود الهيكل أثناء محاكمته، فلم يُدِرْ له المسيح الخد الآخر، كما جاء في تعاليمه: "مَن لَطَمك على خدِّك الأيمن، فأَعرِضْ له الآخر" (متى 5: 39)، بل واجهه سائلًا إيّاه: "إن كنتُ أسأتُ في الكلام، فبيِّن الإساءة. وإن كنتُ أحسنتُ في الكلام، فلماذا تضربني؟" (يوحنا 18: 23). لقد عبّر بكلام آخر الرسول بولس عن هذا الموقف بقوله: "لا تَدَعِ الشرَّ يَغلِبك، بل اغْلِب الشرَّ بالخير" (روما 12: 21).
تدلُّ هذه النماذج من المواقف والتعاليم الدينية، على الدعوة إلى عدم دخول دوامة العنف، لأن في ذلك غلبة للشر الذي يقود البريء أو المعتدَى عليه، إلى دخول صراع هو لا يريده، وإلى الاعتماد على قوة العنف لمواجهة عنف آخر ظالم. والعنف -وإن كان للدفاع عن الذات وحماية البريء-، فيه دائمًا شيء من الظلم، لأن فيه أذيّة للآخر، حتى إن كان هذا الآخر هو الظالم والمعتدي. نستنتج ذلك كلَّما نظرنا إلى آثار الدمار والقتلى والجرحى والنازحين، التي تُخلّفها الحروب، والتي أحيانًا تقع بِاسم ردع الشر والظلم ومواجهة المعتدي. فبسبب العنف ونتائجه، قال البابا يوحنا بولس الثاني هذا القول الشهير، مخالفًا تقليدًا عريقًا في المسيحية: "لا حرب عادلة. وحدَهُ السلام عادل".
إذن، كيف السبيل إلى مواجهة الشر، وعدم الاستسلام له، دون الوقوع في فخّه والانزلاق نحو العنف المدمّر؟ قد يعبِّر هذا السؤال عن أهم معضلة واجهت -ولا تزال- البشريَّةَ بأسرها، على اختلاف شعوبها وفلسفاتها وأديانها. فتضامنًا مع ضحايا الظلم الأبرياء، واحترامًا لدماء الشهداء الذين يبذلون حياتهم دفاعًا عنهم، لا تجوز في هذا المجال الإجابات السهلة والبعيدة عن الواقع، بالدعوة إلى التبنِّي المطلق لِلّاعنف.
إنّ غاية بُناة السلام الذين هم الأبطال الحقيقيون، تبقى الغلبة على الشر، كلٌّ على طريقته، وأفضلها غير العنيفة، ولكن، ليس "تنزيه الذات" بأنانيَّة عن أيِّ صراع. فالسلام وثقافة اللاعنف لا يَعنيانِ التنازل عن الحق والكرامة والعدل، ولا الاستسلام والانهزام أمام الطغيان. إنّ هذا التحدي يقتضي أن يلتزم الإنسانُ السلامَ كقيمة رئيسية، وكهدف للحياة، وكقضية يجاهد في تحقيقها عبر مواجهة الظلم والاستبداد من جهة، ومواجهة نفسه من جهة أخرى، لكي لا تُصبح بِدَورها ظالمة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.