قدَّمَت الدكتورة "أسماء المرابط" استقالتها من مركز الدراسات النسائية في الإسلام، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، بعد الضغوط التي تعرضَت لها بسبب مساندتها لأطروحة المساواة في الإرث، وانتقادها لحُكم "التعصيب"، حيث الأخوات اليتيمات اللواتي ليس لهن أشِقَّاء، يُجْبَرن على تقاسُم الإرث مع أقرب الذكور إلى المتوَفَّى، والذي قد لا تكون له أية معرفة بهؤلاء الأخوات. واعتبرَت الدكتورة أن حُكم التعصيب جزء من سياق ثقافي، يَحكمه منطق القبيلة وضمان بقاء الإرث داخلها، لكنه أصبح الآن تشريعًا تمييزيًّا ضد المرأة، وثَمَّة العشرات من شهادات النساء على ذلك.
لقد أكَّدَت الباحثة أن موضوع إرث المرأة في الإسلام، يُستعمل بطريقة "تبريرية" لتكريس دُونيَّةِ المرأة الفهمَ الأَبَوِيَّ لمبدأ القِوَامة، مع تَجاهُل أنه في المغرب نساء كثيرات يتكفَّلْن بأُسَر بكمالها، وأيضًا طالبَت بإنشاء لجنة مَلكيَّة لحل مشكلة الإرث، كما كان الشأن بالنسبة إلى مُدوَّنة الأسرة.
نشأت حركة تَضامُن واسعة، نَتج منها توقيعُ مجموعة مثقفين على عريضة تُطالِب بإلغاء قاعدة التعصيب "لأنها لم تعُد تنسجم مع بنْيَة العائلة المغربية والسياق الاجتماعي الراهن، كما أنه مجرد رأي فقهي إنساني وليس أمرًا إلهيًّا". لقد أثارت هذه المواقف جدلًا واسعًا داخل الرأي العام المغربي، خصوصا بين مُمثِّلي التيار التقليدي السلَفِي، الذين أزعجهم اقتحام امرأة مثقفة مجالًا يعتبرونه فضاءً محتَكَرًا وخاصًّا بهم. بعض ردود الفعل كان متطرِّفًا، واتَّهم الكاتبة بالانحراف عن الشرع، والميول إلى الأطروحات "العلمانية".
مرة أخرى، تكشف قضية الدكتورة أسماء المرابط عن أزمة الفكر الإسلامي التقليدي، وأيضًا عن أزمة المؤسسات الدينية، وعجزها عن الانخراط في عملية تجديد قراءة النصوص وتأويلها، عمليةٍ يبدو أنها توقفت عند "الاعتقاد القادري"، الوثيقةِ التي أصدرها الخليفة العباسي "القادر بالله" سنة 408هـ، والتي وضعَت حدًّا للاجتهاد، وقامت بصياغة بنْيَة الدوغما السُّنيّة، ورسمَت حدود التفكير الديني، وحدَّدَت ما لا يمكن أن يدخل في نطاق المفكَّر فيه. كانت النتيجة هي حرمان الفكر الديني والمتدينين، وأيضًا المجتمعات الإسلامية، رحابةَ الدين وقدرتَه على تجسيد قيم العدل والمسؤولية والمساواة.
لقد كشفَت النقاشات عن الحاجة إلى قراءة جديدة، تأخذ بعين الاعتبار تاريخية النصوص، والمنظومة الفقهية التي أنتجها علماء الدين في سياقات اجتماعية واقتصادية مختلفة. لذا، أكدَت أسماء المرابط في كتابها (الإسلام والنساء، الأسئلة المزعجة)، أن تأويلات القرآن ليست ثابتة كما يراد لنا أن نعتقد. وعليه، وجَّهَت نقدها إلى من تُسمِّيهم "علماء النص"، الذين يعيشون حالة انفصام في الواقع الإنساني، فكانوا حَبِيسِي تقليد أسطورة السلف الصالح، وعاجزين عن الإجابة عن أسئلة الحاضر. لذا، فهم يتمَوْضعون ضد مفهوم الإصلاح في الإسلام، ويعيشون حالة "ارتداد" حتى عن تاريخ الاجتهاد الذي ميز القرون الأربعة الأولى من تاريخ الإسلام، اجتهادات شملت حتى ميدان الإرث.
تقرأ أسماء المرابط الإسلامَ، كعملية تحرير مستمرة للإنسان. ثم إنّ عملية التحرير تمرُّ ولا بدَّ بالإصلاح، بمعنى موافقة الدين مع الأزمنة الحديثة وروح الحداثة. فالاجتهاد هو روح الإسلام، وشرط استمراره. وتعتقد "المرابط" أن الحل هو العمل على إطلاق اجتهاد جماعي لإنتاج "مفهوم ديني متجدد ومتنوِّر"، مَبنيّ على مقاصدية الإسلام. فالمساواة من مقاصد الشريعة وغاياتها، مقصد يسمح بتصور جديد لقضية المرأة في الإسلام، وتحريرها من شرنقة القراءات اللاإنسانية. إن مقاصد الشريعة مبدأ يملك قدرة هائلة، على تفكيك الانغلاقات الدينية من داخل الدين نفسه، وعلى تجاوز الشريعة المغلقة نحو مفهوم الشريعة المتحركة، بفضل إعادة قراءة النصوص، وذلك من أجل تحقيق العُمقَين الأخلاقي والإنساني للإسلام.
مقاصد الشريعة هي أساس تحرير الإسلام، ومبدأٌ حقَّق تراكمات مهمة بفضل مفكِّرين مثل: فضل الرحمان، وعبد المجيد الشرفي، ومحمد الطالبي. مبدأ يعتمد على فكرة "القراءة الموجهة"، التي تنطلق من الأحكام الدينية في سياقها الثقافي، وتتجه نحو تطوير المقصد الأخلاقي الذي يحرك الأديان في تاريخيتها؛ فتصبح القيمة الأخلاقية أو الإنسانية هي الحاكمة، وليست الأحكام التي تخضع لنسبية التاريخ. هكذا يصبح الدين في خدمة الإنسان، وليس الإنسان في خدمة الدين، انسجامًا مع روح التشريع، الذي يؤكد أنه حيثُما كانت مصلحة المسلمين، فثَمَّةَ شرْعُ الله، {وما ربُّك بِظَلَّامٍ لِلعبيد}!
لا تحزني أختي أسماء، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}، واللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولو عاند المُتَأسْلِمُون!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.