منذ سنة 2011، تَعمَّق انقسام مجتمعات عربية عديدة، وطُرحت في ظلِّ الصراع الحاصل أسئلةٌ فرديّة وجماعيّة، عن أخلاقيّة الخِيارات والمواقف السياسيّة المتاحة. وفي كلِّ الانقسامات اللاحقة -حتى ضِمن الصف الواحد-، جاءت أسئلة عمّا هو مثالي، وما هو ممكن، وما يجب أن يكُون، وما يُمْكن أن يكون. ولاحقًا، برزَت أسئلة مشابهة حول جواز قبول "شرٍّ" قديم ومعروف، لدرء "شرٍّ" مستَجِدّ.
رافقت هذا الانقسام مَقولةٌ تردَّدت بسهولة على ضَفَّتَي كلِّ انقسام، مُفادُها أن الجهل هو السبب الرئيس فيما حصل ويحصل؛ فالآخرون -أو بعضهم- بحسب أصحاب هذه المقولة، جاهلون غير مثقَّفين. ومن ثَمَّ، ما حصل كان نتيجةً طبيعيةً لهذا الجهل.
تَسقط هذه المقولة بسهولة، حين يكون التمييز بين الخير والشرِّ سهلًا أو ممكنًا. إذ نرى متعلِّمين ومثقَّفين بالمعنى التقليدي، اختاروا بحريّةٍ أحيانًا الوقوف في جانب الظُّلم أو الشرّ، اختاروا طرَف العنف المُفْرط تجاه المدنيِّين أو التطرّف الديني العنيف، بل وهلّلوا أحيانًا لممارسات كالاعتقال غير القانوني والتعذيب والقتل؛ في حين اختار أفرادٌ آخرون، غير متعلِّمين، أو مِن طبقات مسحوقة أحيانًا، خيارًا حرًّا في الوقوف إلى جانب الحقِّ وقفة لاعُنفيّة، كلَّفَتهم في كثير من الأحيان حياتهم.
إذًا، العلم والثقافة -بمعناهما التقليدي الشعبي على الأقل- لا يكفيان لجعل الإنسان، ذا سلوكٍ وخياراتٍ أخلاقيّة. فامتلاك المعرفة لا يعني امتلاك أخلاقها. فكيف نفسّر هذا الانقسام والخيارات غير الأخلاقيّة لأفراد عُرفوا بعِلمهم؟ وكيف يمكن لمن حصّل درجاتٍ علميّة عالية، وهاجر وعاش في مجتمعات حرّة وديمقراطيّة، أن يَقْبل التهليل لممارسات العنف والقمع وإلغاء الآخرين؟
قد يقود التفكّر هنا، إلى البحث في كلٍّ من الجانب الفردي والجماعي، والخاصّ والعامّ. فمَن اختار الوقوف إلى جانب الشرّ، لم يكن في الحقيقة بعيدًا عن البحث عن الخير، بمعنى البحث عن خيره الخاصّ، وخلاصه الفردي، وربما أيضًا عن خير جماعته الصغيرة وخلاصها: العائلة، أو الأقرباء، أو الطائفة. ولكن، هل تستقيم الخيارات التي تبحث عن الخير الخاصّ على حساب الخير العامّ؟ وهل يصحُّ أن أَقْبل وأشجِّع قمع جيراني والتنكيل بهم، من أجل خير عائلتي؟
رَوى قَسٌّ ألمانيّ ما قامت به السلطات النازية من اعتقالات وتنكيل بحقِّ اليهود، فالشُّيوعيِّين، ثم الغجر وغيرهم، في حين حافظ القَسُّ وجماعته على صمتهم كل مرّة. وجَدُوا خيرهم الفرديّ مؤمَّنًا، وربما هلَّل بعضهم للاعتقالات والتنكيل بحقِّ الآخرين. ويُنهي القَسُّ روايته بقوله: "وعندما أتَوا للتنكيل بنا نحن، لم يكن قد بقي أحد ليرفع صوته ويدافع عنّا".
الخيار الأخلاقي أو الوقوف إلى جانب الخير، هو ليس البحث عن الخير الفردي بمعزل عن الآخرين. فهذا "الخير" لا يبدو خيرًا بالممارسة، وبالنظر إلى الصورة العامة. الخيار الأخلاقي هو الذي يحقِّق مصلحة الجميع، كلِّ المكوّنات، جميع المَعنيِّين، ولو تَطلَّب تحقيقُ هذه المصلحة الجماعيّة تضحياتٍ مَرحليّة.
لكن، لماذا يَقْبل المتعلّم أن يقف إلى جانب الشر؟ لا يبدو التفسير المعتمِد على البحث عن الخير الخاصّ أو الخلاص الفردي، وحده مبرِّرًا لهذا النوع من الخيارات.
برأيي، يبدو أن قبول الشرِّ والوقوف إلى صفِّه، مستنِدٌ إلى فقدان الأمل من الآخر المختلف، المختلف دينيًّا أو طائفيًّا أو إثنيًّا أو سياسيًّا. فمن يقفْ إلى جانب شرٍّ ما مع العلم بحقيقته، يقفْ إلى جانبه ليحميه من الآخر، الذي يُرى هنا -إضافةً إلى كونه خَطَرًا- قضيّةً خاسرة لا أمل منها. فالآخر منزوع الإنسانيّة، غير قابل للتغيّر أو التطور.
قد يكون هذا هو جوهرُ دافعِ اتِّخاذ خيارات لا أخلاقيّة. فمثلًا: في نظرتي تجاه الآخر، إن كنتُ أعتبره إنسانًا كامل الإنسانيّة، متمتِّعًا بكامل الكرامة مثلي، فأيُّ خيار لي في هذا السياق، يجبْ أن يكون خيارًا يلحظ وجود هذا الآخر ومصلحته، ولو اختلفتُ فكريًّا معه. أمّا إن سمحتُ لنفسي بأن أفقد الأمل من الآخر المختلف، وأن أجرِّده -بفعلٍ واعٍ أو غير واع- من إنسانيّته، فسيُسهِّل عليّ أن أرى فيه خطرًا لا يُردُّ، وشرًّا كبيرًا محتمَلًا، يدفعني إلى دعم سلطة فاسدة اعتدت على فسادها، لتحميني من هذا الآخر.
قد تكون هذه حلقة شيطانيّة، تُكرّر نفسها. سلطةٌ فاسدة تُصوِّر الآخر المختلف تهديدًا، بدل أن يكون غِنًى. فينقسم المجتمع ليَدعم جزءًا لا يُستهان به السلطة التي صَوّرت الآخر تهديدًا وخطرًا.
حلقة شيطانيّة لا فكاك منها، إن لم أتَّخذ قرارًا ناضجًا وجريئًا، لتحرير صورة الآخر في ذهني. فالآخرون المختلفون أكثر مما يمكن أن يُنهيه عزلٌ أو قمعٌ أو تنكيلٌ أو حتى قتل. وهم في غالب الحالات لا يشكِّلون خطرًا على أحد، هم فقط مختلفون بالنسبة إليَّ، كما أنا مختلف بالنسبة إليهم.
في المحصِّلة، لا تحقيق لخيرٍ خاصٍّ بمعزل عن الخير العامّ. ومِن ثَمّ، الخيار الأخلاقي هو الذي يحقِّق الخير العامّ، حتى خير أولئك الذين اختاروا دعم مَن يقمع الآخر، وهلَّلوا لمحاولات إلغائه.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.