لا بدّ من أن تعتبر الجماعات السياسيّة والأنظمة الحاكمة والقوى الدوليّة، المحافظة على النسيج الثقافي المتعدّد للمشرق العربي أولويّة لديها. وفي المقابل، من حق الجماعات الثقافية، في أن تطالب بإنصافها وألا يكون إجحاف بحقهّا، أو بحقّ أبنائها مثلًا في القوانين، أو المناهج التربويّة، أو على صعيد المشاركة في الحياة العامة والسلطة السياسية. ولا يجب أن يكون هذا الحقّ مرتبطًا بعدد أبناء هذه الجماعة أو نسبتها العامة في المجتمع. لهذا السبب بدأ بعضهم يستبدل عبارة "أقليّات" بعبارة "المكوّنات"، لتأكيد مكانة هذه الجماعات في النسيج الوطني العام، مهما كان حجمها.
ومن المعلوم للأسف، بأن النسيج المجتمعي المشرقي أصبح مهدّدًا بفقدان تعدّديّته الثقافيّة لأسباب عدّة. يأتي على رأس هذه الأسباب الصراعات والحروب والأوضاع الأمنيّة غير المستقرة، كما جرى سابقًا في لبنان ويجري في العراق وسوريا حاليًّا. يضاف إلى ذلك انتشار الحركات الإرهابية واستهدافها المباشر لجماعات محدّدة مثل الأقباط في مصر أو الأيزيديين في العراق. ولا يجب الاستهانة بأثر غياب الاستقرار السياسي والعجز الديمقراطي والتراجع الاقتصادي، في قرار العديد من أبناء هذه الأوطان، واختيارهم الهجرة إلى ديار أخرى، بحثًا عن مستقبل أفضل لهم ولأولادهم. هذا النوع من الهجرة يَطُول الجميع، ولكن أثره يظهر بشكل أوضح وأخطر في الجماعات التي تشكّل أقليّة عددية ضمن مجتمعاتها.
إزاء هذا الواقع، تنقسم المواقف بين نقيضين: الأول لا يقبل الحديث عن أي حقوق للجماعات أو المكونات، انطلاقًا من حصر مبدأ المواطنة في علاقة الفرد بالدولة، دون إيلاء أي اعتبار لانتماءاته الخاصة، دينية كانت، أم إثنية، أم قبلية، إلخ. رغم إمكانية تفهّم المبدأ، لكن هذا الموقف غير عادل ولا واقعي عندما تكون الجماعات نفسها عرضة للتمييز والتهميش. يصدر هذا الموقف أحيانًا عن أشخاص منتمين إلى هذه الجماعات، وذلك قد يكون بدافع المزايدة في الانتماء الوطني، أو لحسابات سياسية شخصية مرتبطة بالمجموعات الكبرى المستأثرة بالحكم.
أما الموقف الثاني، فيذهب إلى نقيض ذلك ويتبنى الخيار الطائفي الشامل، أي جعل حماية حقوق هذه المكونات أو الطوائف أو الأقليات، أساس المشاركة في الحياة العامة وعنوان النضال السياسي. فإذا كان الخيار الأول غير واقعي، فالخيار الثاني، المتمثّل بالطائفي أو الجماعوي، هو غير منطقي؛ لأنّه يتناقض مع مفهوم المواطنة ومبدأ الحياة العامة. وغالبًا ما تكون نتيجة الخيار الثاني، تراجع الدولة وقدرتها على إدارة الحياة العامة، بسبب انحياز الأجندات السياسية، من العمل بهدف تحقيق الصالح العام، إلى تعزيز مواقع الطوائف أو المكونات في السلطة، ما يؤثّر سلبًا في تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
يُشكّل لبنان نموذجًا واضحًا في هذا المجال. فمنذ قيام جمهورية لبنان عام 1920، وخاصة بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي في عام 1943، اعتمدت غالبية القوى السياسية المسيحية، وغيرها من القوى والزعامات المسلمة، الخيار الطائفي، لإدارة الحياة السياسية على أساس توزيع الحصص بين الطوائف. وقد لحظ الدستور اللبناني بأن هذا التدبير هو مؤقت، ريثما يتفق اللبنانيون على النظام المرجوِّ ذي الطابع المدني، ومِن ثمّ إلغاء الطائفية السياسية. لكن الحقيقة تُظهر أنّه مع الوقت أصبح التمسّك بهذا الخيار الطائفي أكثر قوّة، وقد شهدنا في الأشهر الأخيرة مواقف وخطابات في غاية الطائفية.
عندما ننظر إلى المسار التاريخي لهذه الخبرة اللبنانية، نجد أنها ترافقت مع تراجع مستمر على مستويات مختلفة كالتنمية، والسياسة والديمغرافيا، خاصة على الصعيد المسيحي. فلقد تراجع باستمرار الوضع الاقتصادي في البلاد، ومستوى الدخل الفردي، وغيرهما من مؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية. أما على صعيد السلطة السياسية، فقد خسر المسيحيون تدريجيًّا من دورهم القيادي وحصتهم في السلطة. وديمغرافيًّا، فمن 53% من عدد السكان في عام 1932، أصبح المسيحيون 42% في عام 1989 عند انتهاء الحرب ووضع اتفاق الطائف، وأقل من 36% اليوم. الغالبية تتفق على ترابط هذه المجالات الثلاثة وتأثير بعضها في بعض. ولكن يختلف المنظّرون في تحديد طبيعة العلاقة في ما بينها. فالبعض يعتبر بأنّ الحفاظ على الوجود المسيحي في لبنان والمشرق، يقتضي أن تؤمن لهم ضمانات سياسية طائفية. وبعضهم الآخر يقول بأن هذا المنطق الطائفي أسهم في تراجع التنمية والاقتصاد والحوكمة الرشيدة للدولة في لبنان، ما دفع باللبنانيين، وخاصة المسيحيين، إلى الهجرة. بالطبع، لا يمكن تبسيط هذا الموضوع الشائك وربط أسبابه بعامل واحد، في حين أن الواقع شديد التعقيد. لكن الهدف هنا يكمن في لفت النظر إلى تأثير الخيار الطائفي السلبي في الاستقرار والتنمية، ومِن ثمّ إسهامه في إنتاج واقع هو بالأساس يدّعي العمل لعكسه. وللحديث تتمّة.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.