من أهم الأسباب التي تؤسس للتراجع الحضاري الذي يعيق تقدم المجتمعات، ذلك الاختلال في نظرة الإنسان إلى "الحياة الدنيا". وإذا أردنا التعرف إلى أسباب هذه النظرة المختلة في ثقافتنا الدينية السائدة، فإننا سوف نجد نوعًا من النظرة الازدرائية، التي قد تصل إلى اعتبار الانشغال في الدنيا "ملهاة شيطانية"، وسقوطًا مريعًا في حمأة الرغبات، التي تحُول دون بلوغ معاني الإيمان وطمأنينة اليقين.
من المرويات الدينية التي يمكن أن تضعنا قريبًا من فهم المشكلة، تلك الرواية المختلف في صحتها، والتي تقول: "الدُّنيا ملعونَةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلاّ ذِكرَ الله وما والاَه، وعالمٍ أو مُتعلمٍ". وعلى الرغم من محاولة بعض الشرّاح تبرير هذه الرواية، والقول بأن "لَعْن الدنيا وما فيها" ينصَبُّ على الفعل البشري المخالف لما يريده الله من الإنسان، وليس على الدنيا ذاتها، فإن لعن الدنيا وما فيها يبقى يشير إلى وجود نظرة سلبية، تتنافى مع نظرة القرآن التي تعزز قيمة الحياة، وتؤكد مفهوم الاستخلاف والإعمار، وضرورة تلمُّس معاني الإبداع الإلهي الذي بثه الله في أرجاء هذه الدنيا.
يقرر القرآن الكريم أن الله أراد للإنسان أن يكون سيد الأرض، والقائم على رعاية شؤونها {وإِذ قَالَ ربُّكَ للملَائكةِ إِنِّي جاعلٌ في الأَرضِ خليفةً} [البقرة: 30]، كما يؤكد أن الواجب الأول للإنسان على هذه الأرض هو القيام بإعمارها {هو أنشأكمْ من الأرضِ واستَعمركُمْ فيها} [هود: 61]، وأنه تعالى قد زود الإنسان بالمعرفة الضرورية التي تمكنه من قيادة الحياة على الأرض، ومعرفة ألوانها وأسبابها {وعَلَّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها} [البقرة: 31].
لقد سبقت إرادة الله بتمكين الإنسان من زمام الحياة على الأرض، قبل أن يقع آدم في المعصية ويخالف أمر الله. ولم تكن الحياة ولا الشجرة التي امتدت إليها يد آدم هي سبب الخطيئة، وإنما كانت المشكلة في رغبة الإنسان الجامحة في الخلود والبقاء. كما لم يكن هبوط الإنسان من الجنة بعد الخطيئة هبوطًا من "عالم الخلود" إلى "عالم الفناء"، وإنما كان الهبوط انكشافًا لمجاهل النفس، واستعدادًا لاكتشاف عالمه الذي أعده الله، ليخوض فيه مغامرة الوجود.
{من عملَ صالحًا من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنُحيينَّهُ حياةً طيبةً ولنجزينَّهُم أجرهُم بأحسنِ ما كانوا يعملونَ}. [النحل: 97].
تُعدُّ هذه الآية الكريمة من النصوص الكبرى التي تؤسس لنظرة قويمة وحكيمة، لمعادلة العلاقة بين الإنسان والحياة على الأرض، وتبدأ المعادلة من حث الإنسان على العمل الصالح، بِغضِّ النظر عن جنسه أو لونه "من ذكرٍ أو أنثى". فليست الحياة الطيبة حكرًا على فئة دون أخرى، وإنما هي نتيجة لجهد واجتهاد بشري جعله الله مقدمة لبلوغ السعادة على الأرض. وفي تقديم "العمل الصالح" على "الإيمان" في الآية الكريمة، إشارة بليغة، وخاصة أن عموم آيات القرآن تقدم الإيمان على العمل الصالح، نحو: {الذينَ آمنوا وعملوا الصالحاتِ} [الرعد: 29]. ولعل المغزى من هذه الاشارة، هو تأكيد أن الحياة الطيبة على الأرض تبدأ من العمل، ثم ترتقي وتكتمل بالإيمان .
يصعب على كثير من الناس التفريق بين نقد القرآن الكريم لِعلوّ الإنسان في الأرض وسعيه المحموم للإفساد فيها وإهلاك الحرث والنسل من جهة، وبين كراهية الدنيا واعتبارها حجابًا يحول بين الإنسان وخالقه من جهة ثانية.
صحيح أن القرآن قد انتقد سلوك من يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويستحبون العاجلة ويذَرُون الآخرة، ولكن هذا النقد لا يتجه نحو الدنيا، وإنما يتصل بتحقيق مصلحة الإنسان على الأرض، وإصلاح الحياة الدنيا نفسها. فإقامة العدل على الأرض، والإحسان للخلق في هذه الحياة الدنيا، يمثِّلان غاية الشرائع التي أنزلها الله من السماء.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.