في ظل ما يجري من انقسام حادٍّ في البنى الاجتماعية والسياسية والدينية في كثير من بقاع الوطن العربي؛ لا بد من السعي الجادّ إلى بناء جبهة ممانعة، تُوقف كل أشكال الطائفية والحروب ودعوات الكراهية التي يتعالى صوت أصحابها، وكأنهم يعتقدون أن لا أصوات أخرى في الساحة، يمكن أن تقدم خطابًا يسعى للترويج للمحبة والإخاء والعيش المشترك، وذلك لا يمكن أن يتحقق بدون تأسيس دولة غير طائفية، تعمل على إرساء مواطنة متساوية حاضنة لقيم التنوع، مما يجعل الجميع يدافعون عنها لأن ذلك يحمي حقوقهم، ويمنحهم فضاءً آمنًا للحياة والعمل والإبداع والبناء.
والسؤال الذي أودُّ أن أطرحه هنا: ما أهمية وجود دولة غير طائفية؟ أو بعبارة أخرى: دولة لا تتأسس على أساس طائفي، سواء تجاه مكونات دينية أو سياسية أو ثقافية داخل مجتمعها؟ إن هذا السؤال يقود إلى التركيز على دور الدولة أو السلطة، في بناء مواطنة غير طائفية تقلل من الشعور بالإقصاء لدى فئات من السكان؛ مما يسمح لبذور الكراهية بأن تنبت في تربة ذلك المجتمع، وتقود تلك الكراهية لاحقًا إلى إضعاف قيم العيش المشترك، مما يجعل الدولة تشعر بأنها غير آمنة، تخشى أن يُستغلّ ذلك الوضع من قبل جماعات طائفية، لها أجندة خاصة تسعى إلى تحقيقها على حساب المُقْصَينَ والمهمَّشِين والضعفاء والمحرومين من حقوق المواطنة، والمميَّز ضدهم من قبل الجماعة الغالبة داخل الدولة.
قد يرى بعضهم أنه لا يمكن بناء دولة لا طائفية في الوطن العربي بعد كل ما جرى، ولكن لا بد أن يكون ذلك ممكنًا؛ لأنه لا خلاص من حالتَي الانقسام والاقتتال إلا بإعادة بناء دول غير طائفية. ولنأخذ مثالًا على إمكانية ذلك: سلطنة عُمان كانت قبل خمسة عقود أكثر دولة عربية تعيش انقسامًا سياسيًّا وإيديولوجيًّا، حيث كانت البلد منقسمة إلى دولتين دينية ومدنية، إضافة إلى وجود حركة ماركسية في الجنوب تسعى للحصول على موطَأ قدم لها، مما عطل التنمية وجعل البلد طاردة لمواطنيها الذين لم ينعموا بأي حق من حقوق المواطنة، التي كان ينعم بها كثير من المواطنين العرب في الدول التي كانت مستقرة في ذلك الوقت. ولكن حين أُسست الدولة الحديثة في 1970 بفضل الحركة التصحيحية التي قادها السلطان قابوس، كان العامل الكبير في نجاحها في الحصول على تأييد الناس هو خطابها الذي كان موجهًا إلى كل العُمانيِّين، يدعوهم إلى العمل المشترك لبناء بلد للجميع، ومن أجل الجميع، وهو الخطاب الذي قاد إلى تحقيق وحدة وطنية؛ لأن المواطنين لم يجدوا ما يناقضه على أرض الواقع من ممارسات تمييزية تجاه فئات سكانية معينة، أو تجاه محافظات معينة، أو تجاه مذاهب دينية، بل وجد سكان البلد الذين ينتمون إلى ثلاثة مذاهب دينية، يمارسون شعائرهم الدينية بِحرية، دون أن ينتهكوا حق بعضهم بعضًا؛ لأن الدولة كانت واضحة وصارمة في إدانة كل من يسعى إلى تفتيت وحدة المجتمع، وبنيان الدولة، بالانطلاق من مبررات دينية. ولذا، عُمان اليوم بعد خمسة عقود من أكثر الدول العربية استقرارًا، في وقت أصبحت دولٌ كانت مستقرة تعاني الانقسام. ما السر في ذلك؟ هو وجود دولة لا طائفية.
هل يمكن أن يُستنسخ هذا المثال في الدول التي تعاني الانقسام اليوم؟ قد تبدو الإجابة صعبة؛ لأن الأمر يتطلب شجاعة في التسامي حول ما جرى من انقسام وضحايا وتشريد، قادت إليها الطائفية. إلا أن الأكثر صعوبة هو الاستمرار في نهج التمييز والكراهية، وتحويل أبناء المجتمع الواحد إلى أعداء لبعضهم بعضًا. والثمن الذي دُفع لا بد أن ينظر إليه على أنه ثمن كان لا بد منه؛ لكي يدرك الجميع من سياسيين ومواطنين قيمة وجود دولة لا طائفية، ومجتمع لا يسمح بأن تنبت في عقول أفراده. ولذا، في الوقت الذي يزداد فيه عدد الدول التي تحارب الطائفية، سوف يزداد استقرار الوطن العربي، وتنطلق عجلة التنمية والنهضة في أقطاره، وسوف يدرك الجميع أن لا تنمية ولا استقرار بدون عفو، وتسامح، وقبول للآخر.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.