بعد فشل التجارب السياسيّة المبنيّة على الهُويَّات والإيديولوجيات الدينية حديثًا، برز مصطلح "الدولة المدنية" أو ما يشبهه أو يوازيه في الخطاب السياسي، وحتى الديني، وبقي هذا المفهوم حتى الآن محفوفًا بالضبابية والالتباس. فلدى بعضهم قد يمثّل ضربًا من الهروب من الاعتراف الصادق بضرورة فصل الدين عن الدولة، المتمثّل بنموذج العلمنة أو العلمانيّة. فيجري الحديث عن الدولة المدنية للمحافظة على دور مقنَّع للدين في التحكّم بالحياة العامة. وبعضهم الآخر يتمسك به وكأنه خشبة خلاص للمجتمعات، التي تتصف بدور بارز للدين في الحياة الاجتماعية وتشكيل المنظومة القيمية لدى الناس، لتأكيد استقلالية السلطة السياسية عن السلطة الدينية. إنّ مفهوم "الدولة المدنيّة" يحتاج إلى تمحيص دقيق، ينطلق من الإجابة عن العلاقة ليس بين السلطتين الدينية والسياسية وحسب، بل بين المنظومتين الدينية والسياسية بشكل عام، ومرجعيَّتَيْهما. سوف أعالج هذا الموضوع في المقال القادم تحت عنوان "هل من صراع بين العلمانية والدين؟"؛ أما في هذا المقال فأودّ الإضاءة على بعض المواقف الدينيّة من مسألة الدولة المدنية. فهي رغم الالتباسات التي لا تزال تحتويها، تفتح هذه المواقف أبوابًا للحوار بين الخطابين الديني والسياسي في هويّة الدولة، والعلاقة بين المجالين السياسي والديني.
لقد واكب الأزهر الشريف التحولات السياسيّة الراهنة في مصر، وأصدر في هذا السياق عدة وثائق، كان أوّلها وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر (في 19-06-2011)، التي تضمّنت موقفًا واضحًا من الفصل بين السلطتين السياسية والدينية. تقول الوثيقة: "لم يَعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يُعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحقِّقة لمصالحهم". يكتسب هذا الموقف الواضح أهمية كبرى لِكَونه يحسم جدلًا والتباسًا أساسيًّا في الإسلام. لكن هذا الفصل بقي على مستوى السلطات، ولم يشمل مسألة المرجعيّة الدستورية والقانونية للدولة. فاشترطت الوثيقة "أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع". يلفت الانتباهَ هنا الحديثُ عن "المبادئ الكلية للشريعة"، وليس الشريعة بحد ذاتها؛ ما يجعل من المرجعية الإسلامية للدولة مسألة قيمية غير مرتبطة بالتفاصيل الفقهية. وبناء عليه أكدت الوثيقة "دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، ويحدّد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة".
تبِع هذا الموقف عدة وثائق وبيانات أخرى مكمّلة له، مثل وثيقة الأزهر للحريات. وأكّد مؤخرًا هذا التوجّه إعلانُ "الحرية والمواطنة، التنوّع والتكامل"، الصادر عن مؤتمر الأزهر ومجلس حكماء المسلمين في 1-03-2017. أكّد هذا الإعلانُ المواطنة كعقد بين المواطنين، مشدّدًا على أنّ "أوّلَ عوامل التماسك وتعزيز الإرادة المشتركة يتمثَّل في الدولة الوطنيَّة الدستوريَّة القائمة على مبادئ المواطنة والمساواة وحُكم القانون". وأضاف الإعلان رفضه لمصطلح "الأقليّات" الذي قد يحمل في طيّاته معاني التمييز، وحصر مسؤوليّة "الحماية" في الدولة الوطنيّة، متخطّيًا بذلك إشكاليَّتَي "الذِميّة" و"الجهاد"، اللتين لا تصلحان إلا في سياق دولة دينية إسلاميّة لم تعُد طرحًا راهنًا.
لقد انقسمت آراء المحلّلين بالنسبة إلى هذه المواقف الأزهرية، بين مُرحّب بشدّة لجدَّتها ولفتحها آفاقًا مهمة باتجاه تعزيز مفهوم دولة المواطنة والمساواة بين المواطنين من جهة، وبين رافض لها ومشكِّك في جدِّيتها من جهة أخرى، لِكون هذه المواقف لم تعتمد بشكل واضح وحاسم الفصل التام بين الدين والدولة، وتبنِّيها مبدأ "العلمانية"، أو على الأقل استعمال مفهوم "الدولة المدنية"، الذي ظهر في خطابات عدد من المسؤولين الأزهريّين، ولكن ليس في البيانات الرسمية.
وقد صدر في المقابل عن المركز الماروني للتوثيق والأبحاث في 5-03-2009، نصٌّ باسم جميع الطوائف المسيحيّة في لبنان، يعالج مسألة العلاقة بين الدين والسياسة، تحت عنوان "شِرعة العمل السياسي في ضوء تعاليم الكنيسة وخصوصية لبنان". تبنّت هذه الوثيقة مبدأ التمايز بين الكنيسة والدولة، واستقلالية الواحدة عن الأخرى، ومالت الشِّرعة بارتياح نحو مفهوم "الدولة المدنية"، في حين بقي الحذر سيّد الموقف تجاه "علمنة الدولة". تقول (المادة 8 من القسم الثالث): "يوجب الفصل بين الدين والدولة قيام دولة مدنيّة تحترم الأديان وتصون حرية المعتقد والعبادة، فيما تتولّى هي دون سواها إدارة الشأن السياسي والاقتصادي والمالي والعسكري". لكن هذا الموقف لا يضع الدين خارج الحياة العامة، إذ تؤكد الشرعة "ويبقى من حقّ الدين أن يعطي حكمه الأدبي في أعمال هذه الإدارة وأدائها من ناحية نتائجها الخلقيّة والإنسانيّة. أما الدولة فتلتزم إعطاء الدين مكانته ودوره في ما يشيع من قيم روحيّة تنعش الحياة الاجتماعية السريعة العطب".
فانطلاقًا من موقِفَي الأزهر في مصر والكنيسة في لبنان، يبقى السؤال: هل "الدولة المدنية" طرحٌ ديني للمحافظة على الحدّ الأدنى من العلاقة والتأثير في الحياة العامة، وفرملة لتطوّر المجتمعات نحو العلمنة، أم أنّها طرحٌ توافقي تلفيقي يعبّر عن مقاربة جديدة للحياة العامة متصالحة، لا بل متحالفة مع المنظومة الدينية رغم استقلالها النسبي عنها؟ للحديث تتمّة في المقال القادم.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.