بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق في التاسع من نيسان/أبريل سنة 2003، تنفس العراقيون الصُّعَداء وتولدت لديهم آمال وأمانٍ كبيرة، بعراق جديد بعيد كل البعد عن التسلط والانفراد بالحكم والدكتاتورية. في تلك البيئة المشحونة بالأحداث المتسارعة، والوجوه الجديدة التي لم يتعوَّد العراقيُّون رؤيتها بعد، ظهرت شخصيات وأحزاب سياسية جديدة في الساحة العراقية تنادي بالحرية والعدالة، بالاعتماد في الأساس على مبادئ الديمقراطية والمساواة والمواطنة. بعد مضي قرابة عقد ونيف من الزمن، هل ما شهدناه ونشهده في العراق هو ديمقراطية حقيقية، أم ممارسة شكلية مبنية على أساس المحاصصة؟
كإنسان قد قضى أيامًا عصيبة في الصحراء، وهو يعاني الويل عطشًا، لم يجد نفسه إلا في ربوع روض خضراء تجري فيها أنهار من المياه العذبة! هكذا كان العراقيون توَّاقين إلى التخلص من الدكتاتورية. فكيف تتوقع أن تكون ردة فعل مجتمع كامل تتوعَّده بالديمقراطية، وهو لم يسمع بها إلا في تعريف بسيط في مادة التربية الوطنية في إحدى مراحل الدراسة المتوسطة، بأن الديمقراطية تعني: (حكم الشعب للشعب)؟! ولكن المثير للجدل في الموضوع نفسه، أن التجربة العملية لتطبيق الديمقراطية حينها، كانت وجود مرشح واحد من دون منافس، وقد حصل على 99.99% من أصوات الناخبين.
كانت ردة فعل العراقيين في استقبال الأحزاب السياسية الجديدة، هي بحجم فهمهم لتعريف الديمقراطية بأن الشعب يجب أن يكون مصدر القرار الأول والأخير، وكانت ردة فعل للـ 99.99% الوهمية في معظمها، التي كانت تُفرَض عليهم، وسرعان ما توسعت القاعدة الجماهيرية لتلك الأحزاب وانتشرت. ففي الثلاثين من شهر كانون الثاني/ديسمبر سنة 2005 ميلادية، توجَّه العراقيون شيوخًا وشبابًا ورجالًا ونساء، في ممارسة ديمقراطية حديثة الولادة في بلادهم، إلى صناديق الاقتراع للتصويت على الدستور العراقي الدائم، الذي تنص المادة الأولى منه على أن "جمهورية العراق دولةٌ اتحادية واحدة مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌّ نيابيٌّ (برلماني) ديمقراطيٌّ، وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق"، وكذلك تنص المادة الثانية، فقرة باء منها، على أنه "لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية".
لم تدم فرحة العراقيين طويلًا، فسرعان ما بدأت تطفو زيف الادِّعاءات، إذ لم تكن الديمقراطية إلا ممارسة شكلية مبنية على قواعد قومية ودينية ومذهبية، وعلى قواعد حزبية، ومصالح شخصية وفئوية ضيقة. وأيضًا لم تكن هنالك حرية لدى الفرد في الاختيار أو في الترشح؛ فانقرضت الكفاءات والخبرات من القوائم الانتخابية، وسيطر عليها نظام القوائم المغلقة، والتحالفات المذهبية والدينية والقومية. فلا يزال العراقيون يعيشون بين حلم الديمقراطية وواقع المحاصصة السياسية، ولا يزالون يعيشون بين عباءة الانحياز الديني والمذهبي من جهة، والمدنية من جهة أخرى، ولا يزالون يعيشون بين التعامل مع الديمقراطية كممارسة، والوعي في فهم كيفية أداء تلك الممارسة.
يقول الكاتب والفيلسوف السويسري جان جاك روسو: "إن رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب بل في وعي الناس". لقد جرب العراقيون الديمقراطية بمفهوم نظام صدام حسين على أنها ممارسة فقط، وجربوها أيضًا بمفهوم المحاصصة، والذهاب إلى الانتخابات بفتاوى دينية، وصور لرموز وشخصيات دينية، وبهويات قومية وإثنية؛ فكانت النتيجة ازدياد التشتت، وانتشار خطاب الكراهية، والتوجه إلى صناديق الانتخابات دون امتلاك وعي كامل بكيفية ممارسة حقهم، أو التفكير في مستقبلهم ومستقبل أطفالهم.
أعتقد أنه على العراقيين الآن أن يراجعوا أنفسهم، وأن يكونوا على قدر المسؤولية. إنَّ أحسن فرصة للعراقيين للتخلص من الأزمات الحالية، والخروج بعراق جديد يعيش فيه جميع المواطنين متساوين، وتُحترَم فيه كل الألوان والتوجهات والأفكار، هي فرصة امتلاك الوعي الكامل بكيفية ممارسة الديمقراطية. فمجرد الذهاب إلى الانتخابات، والإدلاء بالأصوات في صناديق الاقتراع، لا يَعنِيان الديمقراطية. الديمقراطية الحقيقية هي أَلَّا تُفرَض عليك شروط عند الإدلاء بصوتك، أو عند اختيار من تُدْلي إليه.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.