تتنوّع أشكال العلاقة بين الدين والسياسة بتعدّد المقاربات الخاصة لكل منهما، واختلاف السياقات المجتمعيّة لهما. فالسياسة هي خدمة الشأن العام بهدف تحقيق المصلحة المشتركة لأبناء الوطن الواحد، والسعي نحو الخير العام وطنيًّا وعالميًّا. لكن السياسة هي أيضًا صراع قاسٍ على السلطة، لتمثيل الأوطان وإدارة شؤونها باسم التفويض المعطى من الشعب؛ أما الدين فيُمثّل حقيقة روحيّة مبنيّة على الإيمان بالله، أو القدرة الماورائيّة التي أوحت للناس عن معنى حياتهم، وسبل تحقيق غاية وجودهم. والتعبير عن ذلك، ليس عبر قناعاتهم العقَدِيّة، واختباراتهم الروحيّة، وممارساتهم الطقوسيّة والعباديّة وحسب، بل أيضًا عبر مواقفهم وتصرفاتهم والتزاماتهم في الحياة الاجتماعيّة.
فمَن لا يَرَ أيَّ بُعد اجتماعي للدين يطول الحياة في المجال العام والعلاقة بالآخرين، فقد يعتقد أنّه لا توجد أية علاقة بين الدين والسياسة، ويعمل على أساس ذلك. دعاةُ العَلمنة -أو كما يقول بعضهم العَلمانيّة- الراديكاليّة يتبنّون هذا الموقف، ويسعون إلى الدفاع عنه سياسيًّا وقانونيًّا واجتماعيًّا. فيذهب هؤلاء إلى درجة اعتبار حملِ الأفراد لرموز دينيّة من مثل الصليب لدى الشخص المسيحي، أو الحجاب من قبل المرأة المسلمة، انتهاكًا لعلمنة الفضاء العام الذي لا يحتمل بنظرهم أية تعابير ذات طابع ديني. لا شكّ أنّه في الخلفيّة الإيديولوجيّة لهذا الموقف، يوجد حذر من الدين وكأنّه يحمل بذاته بذار التفرقة، واتِّجاهًا يُعاكس ديناميّة الترابط الاجتماعي، والسلم الأهلي، ووحدة الكيان السياسي الوطني. فلذلك، يسعى دعاة العلمنة الراديكاليّة إلى تأكيد حصر الدين في المجال الخاص، أي في المنزل، وداخل المسجد، والمعبد، والكنيسة، ورفضِ أيِّ وجود أو امتداد له في المجال العام، كالشارع، أو المدرسة، أو المؤسّسات العامة. تُعبّر عن هذا الموقف المقولة الشهيرة في بعض المجتمعات العربيّة: "الدين لله، والوطن للجميع".
قد يلتقي مع دعاة العلمنة الراديكاليّة فئة من المتديّنين، الذين -بحجّة الحفاظ على نقاوة الدين- يرفضون أيضًا أيّ تماسٍّ وعلاقة بينه وبين السياسة. ينطلق هؤلاء من موقف متشدّد دينيًّا يدّعي المحافظة على طهوريّة الدين من جهة، وينظر من جهة أخرى إلى السياسة على أنّها مقترنة بالفساد والصراعات، التي لا تنسجم مع الضوابط الأخلاقيّة للدين. يؤدّي هذا الموقف عمليًّا إلى تخلّي هذه الفئة من المتديّنين، عن المشاركة في الحياة العامة والتعاطي في الشؤون السياسيّة، لكي لا يُورّطوا أنفسهم في مواقف تتعارض مع قيمهم الروحيّة، أو معتقداتهم الدينيّة. فهم أيضًا راديكاليّون، باعتبارهم الدينَ حقيقةً تتعالى عن واقع الحياة الطبيعي.
وهناك بالعكس، ثمّة من يعتقد أنّ الدين الذي يعتنقه، يشمل رؤية وتعاليم حول الشأن العام، وكيفيّة إدارته. يَنتِج من هذا الموقف صراعٌ على السلطة السياسيّة باسم الدين، وأحزابٌ دينيّة تقول بأنّ دينًا معيّنًا يحمل الأجوبة الناجعة لمختلف مسائل الحكم، كمقولة "الإسلام هو الحل". وينقسم هؤلاء إلى فئتين: واحدة تقول بأنّ الوصول إلى السلطة، لتطبيق تعاليمها الدينيّة في الحياة السياسيّة، يجب أن يَعبُر بالوسائل الديمقراطيّة، حيث يكون ذلك تعبيرًا عن إرادة الشعب. وفئة أخرى قد تدّعي بأنّ وصولها إلى الحكم لا يرتبط برأي الشعب، بل هو فريضة إلهيّة يجب أن تتحقّق، ليس باسم الشعب، بل باسم "حاكميّة الله"، على مختلف تفاصيل الحياة. فيصبح هؤلاء المدّعون تطبيقَ أحكام الله على المجتمع والناس، متسلّطين على الحياة، وقامعين للحريات وتنوّع المواقف والآراء والمعتقدات، باسم احتكارهم لمعرفة الحق الإلهي، وسلطة تطبيقه على الجميع. وقد دلّت التجارب القديمة والحديثة، لهذه المقاربة المرتبطة بهذه الديانة أو تلك، على فشلها وأثرها السلبي في المجتمع والدين معًا.
بين العلمنة الراديكاليّة، والسياسة الدينيّة الشموليّة، توجد مقاربة ثالثة للعلاقة بين الدين والسياسة. تعترف هذه المقاربة باستقلاليّة الحكم والسلطة السياسيّة، عن أيّة مرجعيّة دينيّة، لكونها تنبثق من الشعب وخياراته المرتبطة بمصالحه العامة، وليس بانتماءات أفراده الدينيّة، من جهة. ومن جهة أخرى، تقرّ بحضور الدين في الحيّز العام، ليس كمنظومة طائفيّة أو جماعويّة منغلقة، بل عبر أتباعه، كأفراد ومواطنين يتمتّعون بحريّة المعتقد، والفكر، والتعبير، وبالتالي بحقّ التعبير عن مواقفهم السياسيّة، انطلاقًا من قناعاتهم الإيمانيّة. يبقى أن معيار صحّة هذا الخيار الثالث، يكمن في إسهامه في تطوير خطاب سياسي، قابل على حدّ سواء للنقد، وللشراكة مع الآخرين، بهدف خدمة مصلحة المواطنين المشتركة، إضافة إلى اعتبار المجتمع والمجال العام خيرًا عامًّا، أسمى من أن يهيمن عليه أيّ فرد، أو فريق، أو سلطة، تحت أيّ مسمّى كان.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.