الدِّين من أقوى الأنظمة التي تهيمن على النفس الإنسانية. لأنه نابع من رغبة النفس في التدّين. ولذلك، لا بد من فهم الدين، ولهذا الفهم طرائق عدَّة، مِن أهمِّها فهم خطابه، سَواءٌ مِن حيث نشأة هذا الخطاب، أو تَلقِّيه. وإنْ كان للأديان منظومة خطاب عامة، فإنه لكلِّ دين منظومة خطابه الخاصة أيضًا، والتي تتبلور في لحظة النشأة، ثم تتطور عبْر خطابات متعدِّدة بعد ذلك، تَتواكب مع حاجات متلقِّي الدين. هذا قانون عامٌّ في الأديان.
مِن مكوِّنات أيِّ خطاب ديني، لُغَتُه التي يتعامل بها مع متلقِّيه. وهذان العنصران، أقصد اللغة والخطاب، من الضروري فهمُهما لفهم الدين.
أوّلًا: اللغة. وهي -لِكَونها أداةَ تَخاطُب بين البشر- قائمةٌ في الأساس على الاستعارة. فمثلًا عندما نقول: "دخل زيد في العالم الرقمي"، فلا "عالَم" ولا "رقم" ولا "دخول" على وجه الحقيقة؛ وإنما استعَرْنا هذه الكلمات لنُعبّر عن "إتقان زيد لِعِلم معيَّن".
ثانيًا: الخطاب الديني. وهو الأسلوب الذي يَتوجَّه فيه الدِّين بتعاليمه إلى الناس، وهو ذو أساليب متنوعة، أختارُ هنا منها التأويل. والتأويل –بعبارة سهلة– هو حمْلُ النصِّ أو الحدَث على معنى غير المعنى الظاهر منه، وَفْق مسوِّغات دلاليّة، يرى فيه المُؤَوِّل أن النصَّ أو الحدَث ينطوي عليه. فمثلًا عندما تَسمع شخصًا يقول: "مكَث زرادشت في إيران ألف سنة، حتى قتله المسلمون"، فقد تَحْمِل دلالاتٌ منطقية وتاريخية هذا النصَّ، على أن زرادشت هنا ليس شخصًا بِعَينه عاش ألف عام ثم قتله المسلمون، وإنما هو دعوة قضى عليها الإسلام، بانتشاره في إيران.
ولْنَأتِ إلى القرآن، فنجده قد أقرَّ بظاهرة التأويل، بل ذكَرَه في كثير من آياته، ومارسه مع النصوص والوقائع التي سبقَته. فعندما وَجَد القرآنُ لدى المسيحيين مثلًا نصوصًا، تَرفع –بنظره– المسيح فوق المستوى البشري، فإنه لم يُنكر تلك الوقائع؛ وإنما عمَد إلى تأويلها بما يتَّفق مع رؤيته التوحيدية المجرَّدة. فإحياءُ الموتى وشفاء المرضى، كلُّ ذلك ليس لِخَصيصة إلهية يتمتع بها المسيح بحسب القرآن؛ وإنما لأن الله أجراها على يدَيه، وإلَّا فهو بَشَر كغيره. وهذا التأويل ليس ردًّا على هؤلاء فقط، وإنما على مَن وصفه بالسحر أيضًا. يقول الله: {إذ قال اللَّهُ يا عيسَى ابنَ مريمَ اذكُر نعمتِي عليكَ وعلَى والدتِكَ إذ أيَّدتُكَ برُوح القُدُس تكلِّم النَّاس في المهدِ وكهلًا وإِذ علَّمتُك الكتابَ وَالحِكمةَ والتَّوراةَ والإِنجيلَ وإِذ تخلقُ منَ الطّينِ كهيئةِ الطَّير بإِذني فتنفُخُ فيهَا فتكُونُ طَيرًا بإِذني وتُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأبرَصَ بإِذني وإِذ تُخرجُ المَوتَى بإذني وإِذ كففتُ بنِي إسرائيلَ عنكَ إذ جئتهُم بالبيّناتِ فقالَ الَّذينَ كفرُوا منهُم إِن هذا إلَّا سحرٌ مُبينٌ}.
لقد مارس القرآنُ التأويل كثيرًا. وهذا أسلوب الأديان عمومًا؛ بأن تَعمِد إلى تأويل ما سبقها، مع ما يتَّسق مع منظومتها الإيمانية. فالإسلام ليس بِدْعًا من الرسالات، وهو في ذلك ينطلق من مبدأ أن الله وحده مَن يَعْلم التأويل، أو أنَّ مَن يمنحه الله القدرة على التأويل هُم من الأنبياء والمُصطَفَيْنَ، لِكَون الله يُعلِّم الخَلْق، ويُنزل الوحي.
مِن واقع ما دَرج عليه الخطاب الديني والمتعاملون معه، سار مفسِّرو القرآن على نفس الطريقة، وعمَدوا إلى تأويل نصوصه. فلم يَسْلم أحد منه، حتى أولئك الذين وقَفُوا نظريًّا –بسبب رؤيتهم العَقَدِيّة– ضد التأويل، لم يَسْلموا من ممارسة ضروب منه. وقد حاول كثير من المفسِّرين أن يضعوا قواعد وضوابط للتأويل، إلَّا أنهم لم يستطيعوا في أغلب الأحيان أن يلتزموها، فضلًا عن غيرهم.
لكن، ما مَوقف القرآن من ممارسة تأويل آياته؟ القرآن –كما قُلتُ– مارَس التأويل على ما سبقه من نصوص ووقائع، لِكَونه من الله الذي يَعْلم الغيب. فالتأويل الذي هو الكشف عن المعنى الأول المقصود من النص –بحسب القرآن–، هو مِن اختصاص الله وحده، ويُمْكن أن يمنحه لبعض أنبيائه وأصفيائه بوحيه إليهم. ولكن، مَن يحدِّد هؤلاء؟ الله وحده مَن يحدِّدهم، وذلك عبْر القرآن، وإلَّا ادَّعى هذه المنزلة كلُّ أحد. فالقرآن في مسألة الغيب، لا يعترف بمصدر غير الله، ويشترط أن يكُون عَبْره فقط. يقول الله عن القرآن: {ومَا يعلمُ تأويلهُ إلَّا اللَّه والرَّاسخُونَ في العلمِ يقولونَ آمنَّا به كلٌّ من عند ربِّنا}. فالله وحده مَن يَعْلم تأويله؛ وأمّا الراسخون في العلم، فإنهم يُسلّمون الأمر لله وحده.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.