اِزدَهر مفهوم الذَّاكرة الجمْعيّة، بعد كتابات عالم الاجتماع الفرنسيّ موريس هالبواشز (1877-1945)، في كتابه الإطارات الاجتماعيّة للذاكرة (1925)، حيث طرَح عدّة أُطروحات حول المفاهيم المتعلّقة بالذَّاكرة الجمْعيّة. فنَبّه بدايةً على وجود علاقة قويّة بين التذكُّر الشخصيّ للفرد، والمجتمع الذي ينتمي إليه. بمعنى أنّ عمليّة التذكُّر لا يمْكن أن تبقى منحصرةً بين الفرد وذاته؛ وإنّما أيضًا تجري ضِمن المنظومة الاجتماعيّة الواسعة التي يتفاعل معها الفرد، كالأسرة والأصدقاء وغير ذلك، حيث لا يمكن الفصل بين نمَطَي التذكُّر الجماعيّ والفرديّ، لأنّ "الذاكرة الجَمْعيّة ما هي إلّا نِتاج تفاعُل ذكريات فردية، والذاكرة الفردية ما هي إلّا نتاج تفاعُل الفرد مع الجماعة".
طرَح "هالبواشز" أيضًا، فكرة أنّ الإنسان يتأثّر بعوامل عند تَشكُّل وعْيهِ بالماضي، ابتداءً بالتاريخ المكتوب والذاكرة الجمْعيّة، مرورًا بالتفسيرات النابعة من معطيات الحاضر واحتياجاته، وطِبقًا لموازين القوى في المجتمع. بمعنى أن ذاكرة الجماعات تَخضع للتغيّر والتشكيل باستمرار.
يزداد أهميَّةً وحساسيّةً موضوعُ الذاكرة في المجتمعات والأقاليم، التي تتَّسم بالتنوُّع والتعدُّد الإثْنيّ والديني؛ لِكَونها تَرسم الحدود بين الأطراف في التواصل (بين "نحن" و"هُم")، وتُكرِّس الصُّوَر النمطيّة والمشاعر التي تَحملها كلّ مجموعة عن الأخرى. ففي عالمنا العربي على سبيل المثال: يوجَد غالبية عربية، إلّا أنَّ هناك عددًا كبيرًا من الإثْنيّات الأخرى، كالتُّركمان في سوريا والعراق والأردن، والأمازيغ في شمال أفريقيا، والأكراد والأرمن، إضافةً إلى الشركس والآشوريّين والكلدانيّين في العراق وسوريا ولبنان. وبالنظر إلى الديانات والطوائف، هناك المسلمون والمسيحيُّون واليهود والدروز والسُّنَّة والشيعة والإباضيّة، وغيرهم من الطوائف والأديان التي قد لا نستطيع حصرها.
لقد رافق هذا التنوّع في عالمنا العربي في فترة من الفترات، صراعاتٌ بين الجماعات المختلفة، ومُطالَبات بالاعتراف بوجودها وهُويّتها؛ وذلك بسبب حالة الإنكار المستمرّ لهذا التنوّع والتباين، إمّا مِن قِبل السلطة أو من المجتمع. وربَّما أحدُ أبرز الأمثلة: الصراع المتمثِّل بالأزمة الطائفيّة السُّنيّة-الشيعيّة، والتي تمتدُّ من العراق ولبنان وشرق المملكة العربية السعودية، إلى اليمن جنوبًا ودول الخليج الأخرى، حيث تَعي كلُّ جماعة من الجماعات اختلافها وتمايزها عن الأخرى. ولا إشكال في ذلك، ولكن الإشكال يَبرز عند غياب الهُويّة الجامعة، وضُمور الذاكرة الجَمْعيّة التي تُعين على تشكيل روابط وعلاقات صحِّيّة بين المختلفين.
يزداد التوتّر والاستقطاب حدّةً، كلّما كانت هناك عوامل داخليّة أو خارجيّة، سياسيّة أو مجتمعيّة، تقوم بإقصاء بعض مكوِّنات المجتمع وتهميشها؛ ما قد يؤدِّي إلى نزاعات مجتمعيّة. وهذه النِّزاعات تُسهم بدورها في خلق ذاكرة جمْعيّة، وروايات شعبية عدوانيّة تجاه الآخر. ومِن ثَمّ، تتجاوز الرواياتُ التي تُشكِّل الذاكرة الجمعية، خاصيّةَ التنوُّع والاختلاف، لتكُون أيضًا محرِّضة على الآخر، وتُكرِّس التَّشرذُم والاستقطاب على المستوى الفكريّ والقوميّ والطائفيّ. وهذا بدوره يُسهم في نشوء حالة من التوتّر وعدم الاستقرار الإيجابيّ في المجتمع. وكلّما زادت الفجوة والعزلة على المستوى الهيكليّ والثقافيّ بين الجماعات في الوطن الواحد، وجرَت مُحاباة جماعة على أخرى وتمييزها، تَوسّع الشَّرخ في العلاقات فيما بينها، نحو النظرة إلى الماضي والمستقبل. فتَبرز قضايا المظلوميّة، والحاجة إلى الاعتراف، والتمكين، والكرامة.
قد ينسى بعضهم في ظلِّ هذا الصراع، أن هذا التنوّع الدينيّ والإثْني في عالمنا العربي، يمْكن أن يكُون نعمةً تُسهم في الإثراء الثقافيّ والحضاري للأوطان؛ إنْ تَوافرَت ثقافة المواطَنة، عبْر احترام الآخر وقبوله، في ظلِّ العيش المشترَك معه، إضافةً إلى الإدارة الناجحة لهذا التنوع، والتي تعطي كلَّ مجموعة حقَّها في التمثيل والاعتراف. إلَّا أن التنوع -في المقابل- يتحوَّل إلى نقمة، عند ضُمور الهُويّة الوطنية الجامعة، وعدم إدارة التنوع بالشكل المطلوب؛ ما يجعله –أيِ التنوع- يستجيب لمحفِّزات التَّشظِّي والانقسام والصراع، والتي قد تتسبّب في إشعال النزاعات والحروب الأهليّة. وهذه تزيد بدورها حالة الاستقطاب بين مكوِّنات المجتمع، حتى بعد انتهائها، ما لم تَجْرِ معالجة الذاكرة المجتمعيّة الخاصة بهذا المجتمع، والعمل على خلق هُويّة وطنيّة جامعة.
هنا يَكمن دور مشاريع الذاكرة -إن صحَّت التسمية- في بناء الجسور ومدِّها بين الأفراد المختلفين من مختلف الجماعات والطوائف، وفي مساعدتهم على خلق مكوِّن مشترَك لاستيعاب الأحداث المختلفة والروايات المتعددة، إضافةً إلى إسهاماتها التربوية في توعية الأجيال الناشئة والقادمة. ويمْكن ضرب أمثلة لمشاريع الذاكرة، كالأدب بصورة عامة (القصص والروايات والأغاني والمسرحيات... إلخ)، وأيضًا المهرجانات العامة والمتاحف، والمناسبات الوطنية الجامعة لجميع أطياف المجتمع، إضافةً إلى دور المؤسسات التعليمية في الاستثمار في مناهج التاريخ، التي تُشكِّل جزءًا كبيرًا من الذاكرة الجمْعيّة "الرسمية"، والتي تؤثِّر بدورها في الحاضر، وتُسهم في تشكيل المستقبل.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.