اِحتضنَت مدينة وهران يوم 8 كانون الأول/ديسمبر 2018 حفل تطويب "شهداء الجزائر"، وهم تسعة عشر كاهنًا وراهبًا وراهبة، من بينهم أُسْقُفّ وهران بيير كلافري. وقد قُتلوا ما بين عامَي 1994-1996، حيث عاشت الجزائر في التسعينيَّات ما سمِّي بـ"العشرية السوداء". والتطويب في عُرف الكنيسة الكاثوليكية هو المرحلة التي تسبق إعلان القداسة، والقديس هو من تعتبره الكنيسة مثالًا يُقتدى به.
يمكن للمسلم الجزائري أن يتساءل عن معنى هذا الاحتفاء بتسعة عشر شخصًا، قُتلوا في فترة عَرفت مجازرَ واغتيالات عديدة، حيث قُتل ما بين مائة وخمسين ألف ومائتي ألف جزائري! لقد أراد منظمو حفل التطويب التركيز على أنهم لا يفرّقون بين الضحايا، مع أن المراسيم كانت كاثوليكية، ولأجل أشخاص كاثوليك. وقد حرصوا على ذكر محمد بوشيخي سائق كلافري الذي قُتل معه، والذي حضرت أمُّه الاحتفال. أيضًا ذُكر الأئمة المائة والأربعة عشر الذين قُتلوا على يد الإرهابيين، وكُتب على لوح أسماءُ بعض من قُتل من صحفيِّين وكُتّاب وأناس عاديِّين.
في الحقيقة، لا يمكن الفصل بين دماء الضحايا. الفارق الوحيد قد يكون أنّ المسيحيين كانوا أجانب، وكان من السهل عليهم مغادرة البلاد لو أرادوا، ولكنهم فضّلوا البقاء ومشاركة الشعب في أحزانه ومآسيه. إنه نوع من الانتماء الاختياري، قد نتبنَّى وطنًا ونصبح جزءًا منه حبًّا واختيارًا. يذكِّرني هذا بما فعله محمد عبد الله دراز، العالم الأزهري، الذي ذهب للدراسة في باريس، وصادف ذلك قيام الحرب العالمية الثانية واحتلال باريس من قبل النازيين. وقد دعته السفارة المصرية وأهله إلى العودة إلى مصر، ولكنه رفض وأبى إلّا أن يشارك الباريسيين في مصيرهم ومحنتهم. فلم يمُت مِن جرَّاء القصف، وكتب الله له أن يعيش شاهدًا على المعرفة العميقة المنفتحة.
مِن بين المحتَفَى بهم الأب كريستيان دي شرجيه، رئيس رهبانية دير سيدة الأطلس في قرية تيبحيرين في سهل المتيجة، وهو أحد الرهبان السبعة الذين قُتلوا في ظروف لا تزال تحوم حولها العديد من نقاط الاستفهام. لقد ترك وصية روحية تُمثّل بحقٍّ المعنى السامي لذلك البقاء الاختياري الصعب، مع كلِّ ما حمله من مخاطر. يقول في وصيته:
"حياتي ليست أكثر ثمنًا من غيرها، ولا هي أقلّ ثمنًا. على كلِّ حال، إنها لا تملك براءة الأطفال. فقد عشتُ ما يكفي لأراني شريكًا في الشر الذي يبدو للأسف أنه يسيطر على العالم، بل شريكًا في الشر الذي سوف يضربني بشكل أعمى. أودّ حين تأتي الساعة أن تكون لديَّ لحظة صحو تسمح لي بأن أطلب المغفرة من الله ومن إخوتي في الإنسانية، وفي الوقت نفسه بأن أغفر من كلِّ قلبي لمن سوف يصيبني [...] أنَّى لي أن أفرح بأن يُتّهم دون تمييز هذا الشعب الذي أُحبّه بجريمة قتلي. سيكون ثمنًا باهظًا جدًّا لِما قد يسمُّونه "نعمة الشهادة" أن تُنسب إلى جزائري، أيًّا كان، خاصة إذا كان يتصرّف بإخلاص وَفْق ما يعتقد بأنه الإسلام. أعرف الازدراء الذي يُوجّه إلى الجزائريين بشكل عامّ، كما أعرف كاريكاتورات الإسلام الذي قد يشجعها نوع من الإسلاموية. من السهل جدًّا أن نريح ضمائرنا بأن نطابق بين هذه السبيل الدينية والأصولية والتطرّف. إن الجزائر والإسلام بالنسبة لي شيء آخر، إنهما جسد وروح".
لقد كان ما يَشغل بال هذا الراهب في رسالة الوداع ألّا يُستخدم موته ذريعةً لإدانة الشعب الجزائري ككُلّ، أو لإدانة الإسلام كدين يعتبره روحًا لهذا الشعب الذي أحبّه من كلّ قلبه. كان يخشى أن يُتَّخذ مقتله دليلًا على فشل الحوار وسذاجة أصحابه، ذاكرًا كلمات التشفِّي التي يمكن أن تَصدر من أنصار الكراهية والاحتقار. فأراد أن يفوّت عليهم الفرصة بكلماته الصادقة التي تَقطر حبًّا وتواضعًا، فهي بعيدة كلّ البعد عن ادِّعاءات البطولة. ففي لحظة الحقيقة لا مكان لتلك الدعاوى الفارغة.
إنها ليست المرة الأولى التي نرى فيها رهبانًا من هذا النوع، أمثال باولو دالوليو الذي ترك روما مسقط رأسه ليختار سوريا موطنًا، حيث أسَّس رهبانية تربطها بالإسلام علاقة حبّ واحترام عظيمَين. تُذكّرنا وصية كريستيان بكتاب لباولو يحمل عنوان "عاشق للإسلام، مؤمن بعيسى"، ويعبّر عن الروحانية نفسها. لعلّ بهذا الصنف من أتباع المسيح تتحدث الآية: {وجعَلنَا في قلُوبِ الَّذينَ اتَّبعوهُ رأفةً ورحمَةً} [الحديد: ٢٧].
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.