وجود الألم والمعاناة هو من الحقائق التكوينية التي تنطوي عليها حياتنا الإنسانية، وتوحِّدنا على اختلاف أدياننا ومعتقداتنا، ولا يمتاز المؤمن بخروجه عن هذه الحقيقة؛ وإنما ما يمكن أن يمتاز به هو رجاؤه أن يكون الله معه في آلامه ومعاناته: {إن تكونوا تألمُونَ فإنَّهُم يَألمُونَ كما تألمُونَ وتَرجُونَ منَ اللَّه ما لا يَرجُونَ} [النساء: 104].
يتصل معنى الرجاء بالحكمة والتطلُّعات الروحية، التي تعطي الحياةَ البشريّة معناها. فالرجاء يتجاوز الواقع البشري، ويلامس معنى الخلود، وهذا يعني أنّ في الإنسان شيئًا يَستعصي على الموت والفناء. ففكرة الخلود والفردوس هي في جوهرها "رجاء"، يتصل بالإيمان بقدرة الخالق وعطائه. والإيمان هو حالة من التفاؤل بالوجود، والمؤمن هو من يرجو رحمة الله وما تشتمل عليه من سعادة وطُمَأْنينة، ويحفز فيه هذا الرجاءُ الأملَ في الحياة، ويجعله يرى ينابيع الخير والجمال. فالخير عنده هو بداية البدايات، وهو الذي يبقى في النهاية.
إنَّ رجاء تحصيل السعادة والسلام، ينسجم والغايات العظمى التي تقوم عليها عموم الأديان، ومن ذلك ما نجده في الكتاب المقدس من تأكيد رجاء الله: "أمَّا أنا، فرجائي مَنُوطٌ بالسَّماء" (مكابِيِّين الثاني 9: 20)، ومِن دعوةٍ إلى التعلق بالله الذي يُنجِّيه ويُرفِّعه ويستجيب له: "لأنَّهُ تعلَّق بي أنجِّيهِ. أرفِّعهُ لأنَّهُ عرفَ اسمِي. يدعُونِي فأستَجيبُ لهُ، معهُ أنا في الضِّيقِ، أنقذهُ وأمجِّدهُ. من طولِ الأيَّام أشبعهُ، وأُريهِ خلاصِي "(مزامير91: 14-16)
وفي أسفار العهد الجديد، نجد الرجاء من الفضائل الأساسية الكبرى التي يسعى إليها المؤمن: "أَمَّا الآن فيثبتُ: الإِيمانُ والرَّجاء والمحبَّةُ..." (كورنثوس الأولى 13: 13). وفي رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، يتجاوز معنى الرجاء ما يَنظره الإنسانُ إلى ما لا ينظره من المعاني الروحية، فيقول: "لأنَّنا بالرَّجاء خلصنَا. ولكنَّ الرَّجاءَ المنظورَ ليسَ رجاءً، لأنَّ ما يَنظرهُ أحدٌ كَيفَ يرجُوهُ أيضًا؟ ولكنْ إنْ كنَّا نَرجُو مَا لسنَا نَنظرهُ فإنَّنا نتوقَّعهُ بالصَّبرِ" (روما 8: 24-25). وفي نص آخر يربط بولس بين الصبر والتزكية والرجاء، فيقول: "عالمينَ أنَّ الضِّيقَ يُنشِئُ صَبرًا، والصَّبرُ تَزكيةً، والتَّزكيةُ رجاءً" (روما 5: 3-4).
وفي الديانة البوذية تتمثَّل عقيدة الرجاء بالحقيقة الرابعة (ماجا)، وهي من الحقائق الأربع النبيلة التي تقوم عليها هذه الديانة، والتي تُقرِّر وجود صراط يقود إلى نهاية المعاناة في حياة الإنسان، وانقطاع الألم (أي الحقيقة الأولى: دوكها). وعند الإغريق القدماء نجد إلهة الرجاء Elpis، ويُطْلَق عليها عند الرومان الإلهة Spes، التي تُعدُّ الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه الإنسان.
قَطْعُ رجاء الإنسان من رحمة الله، هو أسوأ أشكال الشر واليأس، وتَيْئيس الإنسان من الله الذي يمثِّل "الرجاء الأعظم"، هو "عين الكفر"، ونلمح هذا المعنى في وصية يعقوب لأبنائه: {ولا تَيأَسُوا مِن رَوحِ اللَّهِ إنَّهُ لَا ييأسُ من رَوحِ اللَّهِ إلَّا القَومُ الكافرُونَ} [يوسف: 87].
دعوة الأنبياء في جوهرها بشارة ورجاء: {الَّذينَ آمنُوا وكانُوا يتَّقونَ، لهم البُشرَى في الحياةِ الدُّنيَا وفي الآخرةِ} [يونس: 63-64]. فلا خوف ولا حزن لمن آمن واستقام على طريق الإيمان. فالرجاء ليس أمنية خياليَّة لأُناسٍ أقعدهم العجز والكسل؛ وإنما هو عمل وسعي نحو الخيرات، وإيمان بالقدرة على بلوغ السعادة والسلام: {فمَن كانَ يَرجُو لقَاءَ ربِّهِ فَليَعمَل عملًا صالحًا ولَا يُشرِك بعبادةِ ربِّهِ أحدًا} [الكهف: 110].
الرجاء في معناه العميق ليس هروبًا من الواقع الزمني؛ وإنما هو استشراف متفائل نحو المستقبل، وهو محاولة لإدراك الحكمة وراء الحتمية السببية ومعضلاتها الوجودية. فالإنسان يسعى في رجائه إلى ملامسة معاني الطمأنينة والتسليم والإصغاء إلى صمت العبودية، تمامًا كما أصغى إبراهيم الخليل في بحثه عن النور الأعظم إلى همسات التسليم، بعد أن أفَلَتْ أمامه مطالعُ الأفلاك.
رجاء الإنسان للانعتاق من الظلم والاحتلال والاستغلال، هو الذي يوقظ في وجدانه الرغبة في التغيير وتحقيق العدالة، وهو الذي يرتقي بالواقع الإنساني، من فوضويّة ترى في الإنسان نتاجًا حتميًّا للطبيعة، إلى تحفيزٍ للإنسان إلى إدارة الحياة، وتوجيهها نحو الغاية التي يطمح إليها في وجوده.
رجاء الفقراء لرغيف من الخبز، وسقفٍ من الطين يستظلُّون تحته، ليس دون رجاء الأغنياء لِجنَّات الفردوس ونعيمها الأخروي. فإنْ أدركنا هذا المعنى، عَلِمنا أن مُهمّة الدين اليوم هي استعادة الرجاء في حياة الإنسان على الأرض، وإحياء معاني الأخوة الإنسانية، وليست مجرَّدَ تصوُّر جميل لحياة في عالم آخر.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.