الرجوع

الزمن يحرّر المفاهيم الدينيّة

الخميس

م ٢٠٢٠/٠١/٢٣ |

هـ ١٤٤١/٠٥/٢٨

المصطلَحات الدينية كغيرها من المصطلحات، تتعرض لتَطوُّرٍ مَفهومِيٍّ –أيْ تَغيُّر دلاليّ– مع مرور الوقت، بل حتى إنَّ انتقالها من مجتمع إلى آخر في ذات العصر، يُحْدِث فارقًا في المفهوم. وهذا أصبح مدروسًا ومقرَّرًا في الحقول المعرفية عمومًا؛ بَيْدَ أنه لا يزال مَصدر إشكال في المنظومات الدينية لدى المسلمين، وكان ينبغي أن يشكّل مَصدرًا للثراء الفكري، وترسيخًا للمبادئ التي جاء بها الإسلام للبشرية جمعاء. مع أنَّ مَبحث التطور الدلالي اشتغل به علماء المسلمين منذ القدم، وقد مارسه المسلمون عمليًّا منذ عهد صحابة النبي، حيث أدَّى إلى بُروز تَنوُّعٍ لديهم، فَجَّر ثورةً عِلمية، وأسَّس لِبُنْية حضارية، وأدْخَل العالم في مرحلة جديدة ومختلفة عمّا سبقها؛ إلَّا أن هذا العلم حصل له تَقهقُر في التفكير الديني. فبَعْد أن كان من السائر أن يختلف المسلمون في فهم دلالات القرآن على أعلى مستوياته (كمفهوم الألوهية مثالًا)، بحيث أصبح يوجد لديهم مَدرستان على طرَفَي نقيض، إحداهما تقول بـ"التجسيد الإلهي"، والأخرى تقول بـ"التجريد الإلهي"، وبينهما طرائق كثيرة، وأيضًا مع أنَّ مِن طبيعة الجدل الديني أنْ تشتدَّ فيه نبرة كلِّ طرف اتِّجاه مُخالِفِه؛ إلَّا أنهم جميعًا لم يَخرجوا من الجدل اللغوي إلى العنف البَدني. لقد انعكس أثر النزاع المسلَّح الذي اندلع بين الصحابة -بسبب التحولات الكبرى التي حصلت نتيجة ما عُرِف بـ"الفتوحات الإسلامية"-، على الفهم الديني بِرُمَّته؛ ما جعل كلَّ طرف يستعمل الحجج القرآنية، التي لحِقَتها بعد ذلك الحجج الأخرى من الأحاديث واللغة والتاريخ، ليؤكِّد أنه صاحبُ الحقِّ وحده. هذا التحول أنتَج أمرَين مُهمَّين على المستوى المَفهوميِّ، لكنهما متضادَّان. وهما: أ- مُوَاصَلة التطور المفهومي للمصطلحات الدينية بوتيرةٍ أسرع، وذلك بسبب التطور الحضاري الذي أَحْدثه الإسلام، وازديادِ الجدل بين الفِرَق الإسلامية؛ حيث حصلَت "سُيولة مفهومية"، خَشِي فيها المفكرون المسلمون أنْ "يذوب" بِسَببها "معنى الإسلام" ذاته. فظهرَت "أصول الفقه"، لِتَضع مَنطقًا لمفاهيم هذه المصطلحات، ولعموم التفكير الديني. ب- ظهور مَوجة عارمة من التكفير، مُورِسَت عمليًّا على أرض الواقع، سواءٌ مِن قِبَل الدولة أو مُعارضيها. وبدلًا مِن أنْ تَحلَّ "أصولُ الفقه" الإشكالَ، زادت مِن تَفاقُم الأمر، وتحوَّلَت إلى أداة أخرى لإذكاء التكفير وإقصاء الآخر، وجرى دمج منتَجاتها وعناصرها في "علم الكلام"؛ لِيَعمل هذا العِلم على مُصادرة الرأي الآخر تحت مصطلَح قاهر هو "الفِرقة الناجية". فيستعمله كلٌّ لمصلحته، وبأساليب متنوعة، حتى هذا اليوم. لذلك، علينا أن نستَبِين أمورًا، منها: - أنْ نعترف بالتطور المفهومي للمصطلَحات الدينية في الحقل المعرفي الإسلامي، وبأنَّ هذا التطور مستمِرّ ولن ينتهي. - أنْ نحرِّر هذه المفاهيم من رِبْقة الاحتكار والقَداسة، التي يدَّعِيها كلُّ طرف لنفسه، ويَعتبر أنه هو المعبِّر عن الحقِّ فيها. - أنْ نُقرّ بأن الفارق الزمني بيننا وبين نزول الوحي الإلهي طويل، وقد أثمَر تَغيُّرًا مفهوميًّا واسعًا، بل إنه حاد في كثير من الأحيان، إلى درجة أننا الآن نستغرب كيف نشأ بعض المفاهيم مع وجود القرآن بين أيدينا. - عدم إمكاننا إيقاف عجلة الزمن لِتَطوُّر المفاهيم الدينية، فضلًا عن مدى قدرتنا على الرجوع إلى مفهوم لحظة النزول، والذي عالج فيه القرآن مشكلات حصلت زمنَ تَنزُّله، في حين حصل تحوُّل كبير على مستوى البُنْية المعرفية والهيكلة الاجتماعية لدى المسلمين. - أنْ نَفهم القرآن أوّلًا زمنَ نزوله، ثم نميّز بين دلالاته الاجتماعية حينذاك، ودلالاته المطلَقة التي جاءت هدايةً لكلِّ العالمين، وهو ما يسمِّيه القرآن بـ"الآيات المُحْكَمات". وهي دلالات سهلة ميسَّرة، لا تنحاز إلى زمنٍ دون آخر. - أن نستفيد من حركة التطور المفهومي للمصطلحات الدينية، في إيجاد وعي بالتحولات التي حصلت للمسلمين عبر تأريخهم. فلا نقع في بُؤَر صراع جديدة، لا يزال يَستغلُّ فيها المفكِّرُ السِّياسيُّ عدمَ وعي المسلمين العامّ بهذا التطور. - أن نوجد هُويَّةً إنسانية عامة تنطلق من المبادئ العليا للوحي الإلهي، وأن نَخرج من الهُويَّات الاجتماعية التي تَمَثَّلَها المسلمون عبر تأريخهم، ويَحسبون أنها من وحي الله الذي لا يجوز الانعتاق منه. - أن نستظهر مبادئ القرآن الكلية، كالتوحيد الخالص لله، والْتِزام الأخلاق الإنسانية، والعمل الصالح؛ مِصداقًا لقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2025
تصميم وتطوير Born Interactive
معلومات ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين التنقل في الموقع وتحليل استخدام الموقع والمساعدة في جهود التسويق. تحقق من سياسة ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا للحصول على التفاصيل.

إعدادات الخصوصية

حدد ملفات تعريف الارتباط التي تريد السماح بها. يمكنك تغيير هذه الإعدادات في أي وقت. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي هذا إلى عدم توفر بعض الوظائف. للحصول على معلومات حول حذف ملفات تعريف الارتباط، يرجى الرجوع إلى وظيفة المساعدة في المتصفح الخاص بك.
تعرف على المزيد حول ملفات تعريف الارتباط التي نستخدمها.

ضروري
وظائف
تحليلات
تسويق

هذا الموقع سوف:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • تذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • مح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

هذا الموقع الإلكتروني لن:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • يتذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • يسمح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

حفظ وإغلاق