ينطوي التشريع القرآني لمسألة الزواج من أهل الكتاب، على ثورةٍ عميقة على القطيعة الاجتماعية بين الناس على أساس انتمائهم الديني، ورفضٍ أخلاقيّ للنزعات العنصرية الانفصالية، الملتبسة بمقولات "الشعب المختار" وانتقائيته العرقية المزيفة.
يحدد القرآن "غاية الزواج" بثلاثة أمور وهي: السكينة، والمودة، والرحمة (الروم: 21). وهي جميعها معانٍ تتجه نحو المشاعر النفسية والعواطف الاجتماعية، وليست تصورات ذهنية عقَدِيَّة، ما يدفع باتجاه تعزيز المضمون القيمي للزواج، وعدم قصره على أتباع دين بعينه.
ومما يؤكد هذه الأبعاد الإنسانية للزواج الآية اللاحقة للآية السابقة {ومِن آياتِه خَلقُ السماواتِ والأرضِ واختلافُ أَلسنتِكم وأَلوانِكم إِنَّ في ذلك لَآياتٍ لِلعالِمِين} [الروم: 22]. فالحديث عن التنوع عقب الحديث عن قيمة الزواج وغايته، يؤكد العلاقة بين الزواج القائم على التنوع الديني، وتجليات التنوع الإنساني، وخاصة أنه يمثل حلًّا عميقًا لمعضلة الانفصالية الدينية والعرقية التي تعصف بالتنوع الإنساني.
لا بد للتشريعات المتعلقة بالحقوق بين الناس من أن تكون عادلة، وخاصة إذا كان ثمة شعور بانتقاص الحقوق، كالشعور بالأقلية واختلاف الدين "لهم ما لنا، وعليهم ما علينا".
إن النص المؤسِّس لمشروعية الزواج بالكتابية هو قوله تعالى: {اليومَ أُحِلَّ لكم الطيِّباتُ وطعامُ الذين أُوتُوا الكتابَ حِلٌّ لكم وطعامُكم حِلٌّ لهم والمُحصَناتُ مِن المؤمنات والمُحصناتُ من الذين أُوتُوا الكتاب مِن قَبْلِكُم} [المائدة: 5]. وقوله: "والمُحصَناتُ مِن الذين أُوتُوا الكتاب" يؤكد أن المرأة التي يبحث عنها المسلم هي المرأة العفيفة "المحصنة"، ما يجعل القيم الأخلاقية الثابت الأعظم في بناء الحياة الأسرية.
وحقُّ المسلمين في طعام أهل الكتاب، يقابله حق أهل الكتاب في طعام المسلمين. ودلالة كلمة "طعام" تتعدى غذاء الأجساد، إلى كل ما هو نافع للناس وفيه قوام حياتهم.
يمثل الانتقال بتعاليم القرآن من الإسلامي إلى الإنساني، امتدادًا طبيعيًا لعالمية هذه التعاليم، وتأكيدًا لقيم العدالة والمساواة والحرية. فتعظيم الجوامع يؤسس ويدعم المغزى العميق للزواج العابر للأديان كما في قوله تعالى: {يا أيُّها الناس اتَّقُوا ربَّكُم الذي خَلَقكُم من نفسٍ واحدةٍ وخَلقَ منها زَوجَها وبَثَّ منهما رِجالًا كثيرًا ونساءً واتَّقُوا الله الذي تَساءَلُون به والأَرحَامَ إِنَّ الله كان عليكم رَقِيبًا} [النساء: 1].
وإذا أدركنا أن الإسلام ليس ديانة عرقية، وأن حرية الاعتقاد تمثل حقًّا إنسانيًا مهما كانت ديانة الأبوين، فإن المخاوف المتعلقة بالزواج العابر للأديان ما تلبث أن تضعف وتتوارى.
إن الإنسان مكرم وطاهر بإنسانية كما يؤكد القرآن، ومعظم آباء الأنبياء وأمهاتهم كانوا نتاجا لزيجات على غير معتقداتهم فضلًا عن زواج الأنبياء أنفسهم الذين تزوجوا قبل نبوتهم وفق أعراف أقوامهم.
لقد أدى الفهم الذكوري للنص الديني، بالإضافة إلى مصادرته العمق الإنساني للنص الديني نفسه، إلى توسيع مجال "النفعية الذكورية"، حيث أصبح الزواج من الكتابية زيادة في اختيارات الذكر المسلم، لما يشاء من نساء المسلمين وأهل الكتاب!
ومما يحسن الالتفات إليه أن الزواج لدى بعض الفقهاء لم يقتصر على الكتابيات، فقد ذهب أبو ثور إلى إباحة الزواج من المجوسية، وممن قال بذلك من العلماء ابن حزم، والشّوكاني.
يشكل الزواج بالكتابية حجة قوية تدحض قول القائلين بتكفير أهل الكتاب، وخاصة أن القرآن قد أكد حرمة الزواج بالمرأة الكافرة {ولَا تُمسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافرِ} [الممتحنة: 10]. كما يوضح الزواج بالكتابية المفهوم الصحيح للولاء والبراء، ويؤكد أن الأصل في العلاقة بأهل الكتاب هو السلم والبر والقسط.
ولعل السبب الذي جعل الزواج بالكتابيات لم يصل إلى غايته الصحيحة، يعود إلى النظرة الفقهية المحدودة التي ربطته بأحكام أهل الذمة، عوضًا عن ربطه بالقيم الحضارية والأبعاد الاجتماعية والفلسفية للتشريع. كما أن إصرار الفقهاء على اقتصار هذا الزواج على اتجاه واحد، قد أسهم في إيجاد حالة من الشعور بالتمييز، وجعل كثيرًا من أهل الكتاب يرون فيه استغلالًا لهم واختطافًا لبناتهم.
عندما يجتمع أتباع ديانتين مختلفتين داخل بيت واحد ويقيمون أسرة واحدة، فإن هذا يمثل تجسيدًا عمليًا للتعددية الإنسانية الجامعة، وتحقيقا للنظرة القيمية إلى الزواج، كما يفتح أفقًا واسعًا لبناء علاقة إنسانية راقية تُجسِّد مقاصد الشريعة ورحمة الله بالناس أجمعين.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.