السَّلام عليك يا مريم... وعلى أخَواتك وبناتك.
أيُّ سَلامٍ يمْكن أن تقدِّمه هذه المرأة اليهوديَّة، للمسيحيِّين والمسلمين في بلادنا العربيَّة والعالم؟ وأيُّ سلامٍ يمْكن أن تُقدّمه ابنةُ "النَّاصرة" لأبناء وطنها، في أرض ميلادها وميلاد ابنها المسيح؟ وأيُّ سلام يمْكن أن تُقدّمه تلك المرأة التي لم تَرَ يومَ سلام، في حياتها لأَجْل عطْشَى السَّلام في العالم، أي سلام تقدّمه تلك الأم المتألمة للأمهات الثكالى ولأيتام الحروب المجنونة؟!
السَّلام المَريمِيُّ، ليس سلامًا مسيحانيًّا منتظَرًا وراء مستقبل أُخرَوِيّ، بعيدًا بُعد الشمس، وليس وَعدًا بجنَّةٍ بَعْد جحيم الحياة؛ بل هو سلام في الألم والمعاناة، وفي وسط الأعاصير والبراكين. فهي في النار ولا تحترق، ويَعصف بها الألم فلا يَكسرها، ولا يُولّد فيها حقدًا أو كراهيَة. تُواجه الألمَ بالمحبَّة والعطاء، سلاحُها لا يُقهر ولا يُهزم. إنَّها مِلْءُ الحياة في اللَّحظة الآنيَّة، الأبديَّة في تفاصيل الزَّمان اليوميِّ.
"الحُبُّ في بَحْر الحزن ليس حزينًا" -حسب ما يقول الرُّوميّ-. لكنَّ ذلك لا يعني فقدانًا للإحساس، أو تَكلُّسًا في المشاعر من فرط الألم، ولكنَّه يعني أنَّ الشَّرّ لا يمْلك الكلمة الأخيرة على روحها الطَّاهرة، ولا يُحوّلها إلى رُكام من رَماد، أو إلى كائن مدمَّر مُنهار. ذلك النُّور الجُوَّانيُّ لا يُخمَد، بل يزداد تَوهُّجًا وبريقًا.
السَّلام المَريميُّ يتحقّق في جهود الأمِّ، الَّتي تُحاول أن تُربِّي أبناءها في جوٍّ "عاديّ"، في ظروف غير عاديَّة، وسط الحروب وتحت القصف! السَّلام المَريميُّ يتجلّى في المُعلّمة الَّتي تَسِير عكس التَّيّار، وتُربِّي على المحبَّة في زمن الكراهيَة، وتُعلّم السَّلام في زمن الحرب، حتَّى لا ينسى جيلُ الفاجعة ذاكرةَ المحبَّة، وحتَّى لا ينسى أطفالُنا فرحةَ الحياة، تلك الطَّاقة الحيويَّة المتدفِّقة المَلْأَى بالأمل والرَّجاء.
السَّلام المَريميُّ، هو تلك القَداسة اليوميَّة للنَّاس العاديِّين المَنسيِّين في مخيَّمات اللَّاجئين، في أحياء القصدير، في مناطق الظِّلّ الَّتي تأبَى الذُّلَّ، لأنَّها عزيزة في ذاتها رَغْم الأسمال ورُكام الإهمال. ذلك هو التَّاريخ الإلهيُّ الَّذي لا يكتبه أحد، ولا يُدرَّس في كتبنا المدرسيَّة. إنَّه التَّاريخ "المُوازي" المدَوَّن في كُتُب السَّماء، تاريخُ النَّاس الوُدَعاء المسالِمِين، أولياء الله المجهولين.
هذا السَّلام الدَّاخليُّ، الَّذي تَحظى به امرأةٌ عَزْلاء بين الرِّجال المدجَّجِين، يذكِّرني أيضًا بزينب، حفيدة النِّبيِّ محمَّد وأخت الحسين، الَّتي أُتي بها مكبّلة بالأصفاد مع أهلها من نساء وأطفال، إلى قصر ابن زياد والي الكوفة، الَّذي أراد أن يتشفَّى منها وأن يُشْعِرها الذِّلَّةَ والصَّغَار. فسألها ورأسُ الحسين بين يديه: "كيف رأيتِ صُنْع الله بأخيك وأهل بيتك؟". فأجابت مرفوعة الرَّأس: "ما رأيتُ إلَّا جميلًا". فذهب غرورُه هَباءً مَنثورًا؛ إذْ هزمَته بجمال روحها وجلال قدرها.
يتكلَّم الرُّوميُّ عن ميلاد المسيح بطريقة رمزيَّة، تجعل هذا الحدَث التَّاريخيَّ قابلًا للتَّكرار، داخل كلّ إنسان عبْر الزَّمان والمكان. فكلُّ واحد منَّا مَعنيٌّ شخصيًّا بهذا الميلاد، لأنه يمْكن أن يكُون ميلادَه الرُّوحي. فبِحسَب الرُّوميّ، كلُّ واحد منَّا مِثلُ "مريم"، حاملٌ بعِيسَاهُ الدَّاخليّ، بتلك النَّفخة الإلهيَّة، والقداسة بالقوَّة والإمكان، الَّتي تنتظر التَّحقُّق والظُّهور، حتَّى تَخرج لتمشي على الأرض. المَخاض هو ذلك الألم الَّذي يُطهّر النَّفسَ، ويُهيِّئُها لِلَحظة ميلاد النُّور. وهكذا، تنتقل القصَّة من الماضي لِتَحلّ بالحاضر اليوميِّ. فلحظة الميلاد ليست فاصلًا بين مرحلتَين مختلفتَين، بقدر ما هي عجينٌ نَخبزه كلَّ يوم، لِنُولَد مجدّدًا في كلّ لحظة.
{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التَّحريم: 12]. هكذا وصَف القرآنُ مريم، وهو تصديق يَظهر في قولها في الإنجيل: "كَشَفَ عَن شِدَّةِ ساعِدِه فشَتَّتَ المُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهم. حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء. أَشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات، والأَغنِياءُ صرَفَهم فارِغين" (لوقا 1: 51-53). فمريمُ تَكشف بهذه الكلمات عن منطق الرِّسالات والكتب، الَّذي يعاكس تمامًا منطق القوَّة والهيمنة. فمَنطق الحقِّ يَرفع المتواضعين الوُدَعاء، ويضَعُ المتكبِّرين الأغنياء. إنَّ رُوح التَّديُّن، هو هذا الفقر الرُّوحي إلى الله، وهذا العطش الَّذي يَرنُو إلى النُّور. ومَوت التَّديّن، هو الشُّعور الفارغ بالارتواء والامتلاء والاكتفاء.
"مريم" مِثلُ "زينب"، تقف إلى جانب الضُّعفاء المظلومين، الأقوياءِ بالرُّوح والإيمان، الَّذين أدركوا ذلك المنطق، الَّذي خَفي عن المتكبِّرين المتعجرفين. إنَّه الإيمان بميلاد الإنسان الَّذي يمشي على الأرض هَوْنًا، مُحقِّقًا المقصد الإلهيَّ من الخَلق والحياة، وناصِرًا الحقَّ بالحقِّ، وهاديًا إلى الصِّراط المستقيم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.