تحتفل شعوب "تمازغا" الكبرى، أيِ الشعوب ذات الهُويَّة الأمازيغية بشمال إفريقيا ودول جنوب الصحراء، ليلة 13 كانون الثاني/يناير من كل سنة، برأس السنة الأمازيغية. وهي هذه السنة: "إض يناير 2970".
يُعتبر هذا الاحتفال تقليدًا مُمتدًّا في التاريخ، يَحمل رمزية التفاؤل بقدوم السنة الفِلاحِيَّة الجديدة. ومع أنَّ الكثير من العادات والطُّقوس الاحتفالية (مثل قطف الأزهار، وتناول المكسَّرات، وتوزيع الحَلْوَيات على الأطفال)، لا تزال تُحِيل على هذا الارتباط الأصلي بالطبيعة والخِصْب والنعمة؛ إلَّا أن هذه الرمزية تراجعت، حيث أصبح أغلب الأمازيغ (السُّكَّانِ الأصليِّين لشمال إفريقيا)، يحتفلون بهذه الذكرى كارتباط بالهُويَّة الأمازيغية فقط.
تَشهد دول المغرب العربي استرجاعًا تدريجيًّا لرموز الهُويَّة الأمازيغية، وأيضًا تتصاعد المَطالب الحقوقية بالاعتراف بهذا اليوم رسميًّا كعيد وطني، وباحترام الحقِّ في التعدُّد اللغوي والتنوع الثقافي، من أجل بناء مجتمعات حاضنة للتعدد والاختلاف. لكنَّ هذا الاحتفال أصبح موضوعَ نقاشٍ مجتمَعِيّ ذا خلفيَّة دينية، وذلك على إثْرِ قيام مجموعة من شخصيات التَّيَّار السَّلَفي، بإصدار فَتاوى على مواقع التواصل الاجتماعي، في تحريم الاحتفال بالسنة الأمازيغية وكل الأعياد التي قبْل الإسلام، مؤكِّدةً أنَّ هذا التحريم جزء من إجماع أئمَّة السَّلَف، وذلك على اعتبار أنَّ الإسلام قد نسَخَ كلَّ ما سبَقه.
أيضًا جرى وسْمُ الاحتفال الأمازيغي بأوصاف قَدْحِيَّة، مِثل: "الخُرافة"، و"الجاهليَّة"، و"الوثنيّة". ويلجأ هذا الخطاب التكفيري إلى نظرية المؤامرة، مُدافِعًا عن فكرة أن الهدف من هذا الاحتفال هو "بَثُّ الفُرقة والتناحر" بين المسلمين وإحياءُ النَّعَرات الجاهلية، ومُحاولًا خَلْق علاقة صراع وهمي بين المنظومة الدينية الإسلامية والثقافة الأمازيغية.
يَكشف هذا النمط من التفكير الديني السَّلَفي عن رُهَاب التعدد الثقافي، وهو الوجه الآخر لِرُهاب التعدد الديني. أيضًا يَكشف عن نزوع نحو جعل تَصوُّرٍ دينيٍّ ما، يَحكم ويتحكم في كلِّ جوانب الحياة، وينمِّط الثقافة، ويسعى لإلحاقها بالدِّين الذي يتحوَّل إلى هُويَّة مُهيمِنة شمولية وماحقة للهُويّات الثقافية. لهذا، أصبح الفكر السَّلَفي في بلدان المغرب العربي، مُرادِفًا في كثير من الحالات لمناهضة الاعتراف بالحقوق الثقافية للأمازيغ ورفْضِه (تقاليد، أسماء، لغة، وغيرها)، حيث يَخلق ارتباطًا جوهريًّا خاطئًا بين الإسلام والعروبة، ويَفصل الإسلام عن بُعده الكوني، متناسيًا أن أجداد الأمازيغ احتفلوا بالسنة الهجرية، كما بالسنة الأمازيغية، في تَآلُف حضاريٍّ لم يُثِرْ حفيظة رجال الدِّين يومًا.
يُذكِّرنا هذا النقاش بِعِيد النَّورس أو النَّيروز، ذي الأصول المجوسية. وهو احتفاء بالطبيعة والخِصْب، ولا يزال يُحتفل به في دول، مثل: إيران وأفغانستان وتركيا والعراق، مع أن ابن تيميَّة قد حرَّم الاحتفال به، ومع أنّ بعض المَرجِعيّات الدينية سعَت في العصور الحديثة لتحريمه، بدعوى أنه عيدٌ وثنيٌّ مجوسي.
لا يمْكن ادِّعاءُ أنَّ نصوص الإسلام تتصادم مع الهُويّات الثقافية؛ إذ لم يأت الإسلام لنسخ الثقافات، ولا لإبادتها، بل للحفاظ عليها. فالاختلاف أو التعدد جزء من الحكمة القرآنية، حيث نقرأ: {ومِن آياتِه خَلْقُ السماوات والأرضِ واختلافُ أَلْسِنتِكم وألوانِكم إنَّ في ذلك لَآياتٍ لِلعالِمِينَ}. فالقرآن لم يَكتفِ بالاعتراف بالحقِّ في الاختلاف الثقافي، بل جعَل التعدد آيةً إلهية. فالتعدد هو ما يَسمح لنا بفهم الأصل الواحد، أَيِ الله الخالق لكل البشر.
مِن هنا، كان خطرُ اختزال الثقافة في الدين، واختزالُ الوجود الإنساني واغترابُه في بُعد واحد، أيْ في بُعد ديني يتحول إلى نسق شمولي، ينتهي إلى ما يسمِّيه المفكر الفرنسي أوليفييه روا بـ"الجهل المقدَّس"، أو وَهْمِ دِينٍ مَنزوع الثقافة. هو جهْلٌ يجعل الأصوليات الدينية تعتقد أنها تُمثِّل نماذج نقيَّة من الدين الأصلي الطاهر، الذي لم تُخالطه دناسة الثقافة الأرضية. لذا، تَنزع هذه الأصوليات إلى معاداة التنوع والتعدد والحقِّ في الاختلاف.
يجب أن نعترف بأنه كما أنَّ الدين يُنتج أشكالًا ثقافية عديدة، فإنَّ الثقافات بِدَورها تؤثِّر في الأديان وتُحدِّد معالمها. فكُلُّ الأديان تتضمن أشكالًا ثقافية غير مُعلَنة. وما أحْوَجنا إلى تَصوُّر ديني قريب ومُحايِث للتجارب الثقافية الإنسانية، لأن الثقافات أيضًا تمتلك لغتها الخاصة للتعبير عن المقدَّس والمطلَق، هذا المقدَّس الذي قد يجد مكانه، ليس فقط في التطلُّع إلى السماء، بل أيضًا في الفرح بالخِصب وبِحُبِّ الأرض.
لَكُم جميعًا أقول بالأمازيغية: "أسكاس تيمغاس" أيْ سنة جديدة، وكلَّ عام وأنتم بخير. والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.