بعد انتهاء محاضرة ألقيتُها حول الإسلام المتعدِّد وأدب الاختلاف، تقدَّمَت فتاة في مُقتبَل العمر بسؤال، عبَّرَت فيه عن دهشتها مِن كَوني أدرجتُ الشيعة كمذهبٍ إسلامي، في حين أنهم "ليسوا مسلمين أصلًا"، فهُم "كفّار لأنهم لا يؤمنون بالسُّنَّة ولا بالقرآن"، ولا حتى بـ"رسالة محمد"، وأن التاريخ أثبت أنهم "أعداء الإسلام... وسعَوا لتدميره". وعندما سألتُ المشارِكة أَكانت تَملك أدلّةً تَدعم أحكامها؛ اكتَفَت بالقول: "إنّ ذلك معروفٌ لدى الجميع، وثابت في كُتب أهل "السُّنّة والجماعة"، الذين يمثِّلون الإسلام الصحيح".
عمومًا، يَكشف هذا الخطاب عن الطريقة التي يفهم بها بعضهم اختلافاتنا. وقد أثار انتباهي في تلك المداخلة كلمتان: "الكتب" و"التاريخ"، وأعتقد أنهما مكوِّنان أساسيَّان، من العقل الإقصائي للإنسان المسلم التقليدي، سُنِّيًّا كان أم شيعيًّا.
بدأ الصراع بين المَذهبَين سياسيًّا حول مسألة الخلافة، ثم انتقل إلى مسائل خلافيَّة كثيرة، وظلّ كلٌّ من المَذهبَين يؤكد أنه يمثِّل السُّنَّة الحقيقية للرسول، والمستأمَن عليها، بل إنه يمثِّل النسخة الأصلية للإسلام. بعد ذلك، بدأَتِ الكثير من المسائل الخلافيّة الفقهية، المرتبطة بسِياقات تاريخية نسبيّة، تتحول إلى مسائل جوهرية تؤسِّس لصِدام عقائدي شِبه دائم. ثم قامت بعد ذلك مُدوَّنات موضوعُها "الفِرَق والمِلل"، برسْم خطٍّ فاصل بين ما تعتقد أنه عقيدة صحيحة، وعقيدة فاسدة. فأصبحت كلُّ فرقة تَرى نفسَها الفِرقةَ الناجية الوحيدة، وكانت النتيجة أن أصبح فِقهُ التكفير جزءًا من تاريخ المذاهب، التي لم تتأسَّس كنظريات خاصة للتديُّن، بل كنظام لدحض عقيدة الآخر.
كان تاريخ العلاقة بين المَذهبَين إلى حدٍّ ما تاريخَ تَعايُش، لكنه أيضًا تاريخ حروب دموِيّة، جعلَت القطيعة تتَّسع بين "الفريقَين"، حتى أصبحا يَكادان يُشكِّلان إسلامَين منفصلَين متضادَّين، يجري استعمالهما لتبرير الصراعات السياسية. صراعات أصبحت اليوم، تُخلِّف آلاف الضحايا، وتُحوِّل العالم الإسلامي تدريجيًّا إلى منطقة منكوبة واسعة. أيضًا يتفاقم هذا التصادم المذهبي عبر الفضائيات، التي تَعجُّ بالعنف الرمزي واللفظي، كالحديث عن "الرَّوافض" و"النَّواصب"؛ ما يبيِّن العجز عن فهم الاختلاف، كنتيجة طبيعية لنسبية فهمنا للحدث التاريخي.
أصبحنا نَرْزح تحت ثقل التاريخ وآلاف من النصوص التراثية "المقدَّسة"، التي أدَّت أحيانًا إلى برمجة تدريجية للعقل الديني السُّنِّيّ والشيعي على حدٍّ سَواء، وإلى الحيلولة في كثير من الحالات دون انبثاق الإنسان المسلم المفكِّر. إنها نصوص ثاوِيَة (ساكِنَة) في "أُمَّهات كُتب"، تَحوَّلَت إلى كتب "قاتلة". لكن إشكالية العلاقة بن المذهبَين، تُحِيلنا في حقيقة الأمر إلى انغلاقات الفكر الديني الإسلامي عامّة، وعَجْزِه عن ربط تديُّننا بإنسانيتنا. لذا، تكوَّنَت إسلامات مغلَقة على نفسها، مُشترَكُها الوحيد هو قدرتها على رسم حدود وهْميّة، وتشييد الأسوار بدل الجسور؛ حتى أصبحنا نتساءل: "هل كان مفهوم الأمَّة لا يزال مُتصوَّرًا، أم أننا أصبحنا ممَّن قال فيهم الله تعالى {كُلُّ حِزْبٍ بِما لدَيهِم فَرِحُون}؟". وأيضًا أتساءل: ألَا يزال الإصلاح الديني بين المذاهب الإسلاميّة مُمكنًا؟
يبدو الحوار والتقريب الحقيقي بين المذهبَين صعبًا، بسبب هيمنة اليقينيّات المتنافية. لذا، فإني أعتقد أن ليس ثمّة إصلاح ممكن، دون ثورة معرفية ولاهوتية، تضع حدًّا لعبادة النصوص والتاريخ. إنه من واجبنا الأخلاقي، أن نعترف بأن مرجعيّاتنا التاريخية والعَقَدِيَّة مرجعيات نسبية، وأنْ نتحلَّى بأخلاق التواضع حيث لا أحد منّا ينطق بِاسْم الله، ونضَع حدًّا لثقافة اللَّعَنات اللاهوتية .ثم إني أرى أن الحقيقة الوحيدة الممكنة، لا يمكن أن تُستقَى من كُتب التراث "المقدَّسة"، بل من المشروع المشترك المبنيِّ على قدسيّة الإنسان.
أحيانًا، عندما أستمع للطريقة التي يتحدث بها الشيعة والسُّنّة عن بعضهم بعضًا، أَحلُم أن تندثر فيها الكثير من الكتب، التي نغَّصَت وشوَّهت عقولنا وقلوبنا. وأتساءل أحيانًا: "ماذا لو استيقظ السُّنّة والشيعة في صباح يوم ما، وقرَّروا أن يتناسَوا خلافاتهم مدة يوم واحد، وكأنها لم توجد قط؟". عندها، سيكتشفون إلى أي حدٍّ يمكنهم أن يعيشوا بدونها، وهم أكثر حرِّيّة وإيمانًا!
بعدما استمعتُ لكلمات تلك الفتاة، حزَّ في نفسي كثيرًا أن تَحمل في عقلها وروحها، كلَّ ذلك الرُّكام الداكن من الأفكار المقدّمة سلفًا، وذلك القدْر من وهْم امتلاك الحقيقة. فإذا كانت أركان الإيمان في الإسلام ستة، أفلم يَحِنِ الأوان لنُضيف إليها عقيدة التواضع والنسبية وقدسيّة الإنسان، فتكُون سبعة أركان؟ والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.