أخبَرَني عبْر الإنترنت، بعد أن أصبح في منطقة آمنة -حتى إشعارٍ آخر-، أن المبنى الذي آواه قد أصابه قصف من الطائرات الحربية، والْتَصق سقفُه بأرضيَّته أو كاد. فكان عليه أن يختار: إمَّا البقاء للبحث بين أنقاض المبنى عن أفراد قد يكُونون على قيد الحياة من عائلته، أو الهرب إلى منطقة آمنة بعيدة عن المقاتلين، خوفًا من الاعتقال أو القتل. قرارٌ لم يَحسمه إلَّا رفاقه الذين ألْقَوه معهم عَنْوَة في صندوق شاحنة صغيرة، غادروا بها باتجاه منطقة أخرى قد تكون أبعد قليلًا عن المقاتلين، ولكنها ليست بمَنْأى عن قصف الطائرات، شأنه شأن عشرات آلاف المدنيِّين/ات الذين نزحوا من ريف إدلب أخيرًا، حيث كان ذلك النزوح هو الثاني بالنسبة إلى كثيرين/ات منهم.
عادت بي الذاكرة رُبع قَرن إلى الوراء، زمَنَ المحطاتِ التلفزيونية الأرضية فقط. فكانت المحطة المحلِّيَّة "الوطنية" تَنقل كلَّ ليلة دون كللٍ في نشرة أخبارها اليومية، أخبارَ اشتباكات بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، وسقوط جرحى وقتلى وأسرى بينهم. وأحيانًا تَنقل أخبار بلدان أخرى، مثل: البوسنة، وساراييفو، وأفغانستان، والعراق؛ حتى تَحوَّل موت الآخرين -البعيدين هناك- إلى مجرد أرقام في ذاكرتي: "15 جريحًا و3 قتلى في قطاع غَزَّة، و8 جرحى و4 قتلى في كابول... إلخ"، وذلك يومًا بعد يوم بعد يوم.
بعدها بسنوات، انتقلْتُ بصفتي راهبًا مبتدئًا آنذاك، لأعيش في واحد من أجمل الأديار في لبنان. مَبنًى قديم جدًّا من الحجر، مُغطًّى بسقفٍ قرميدي أحمر، على كتف وادٍ يُشرف على النهر الذاهب باتجاه الأبيض المتوسط. فتكاد لا ترى حتى في الأفُق، أيَّ أثرٍ لبناء من صنع إنسان، ولا تسمع إلَّا صياح دِيك الدَّير أو قَرْع جرس الكنيسة. وما إنْ أتَيتُ الدَّير أول مرّة، حتى اعتقدتُ بصدق وتأكيد أنني سأقضي ساعات وساعات، أتأمَّل فيها صنع الخالق في جمال الطبيعة، وكأنَّ انشداهي الأول هذا، سيستمرُّ إلى الأبد.
على إثْر مرور بضعة أسابيع، بِتُّ لا أكاد ألتفِتُ لِأَستمتع بالنظر إلى الوادي والأحراش، أو لِأَرى مياه النهر البعيد تلتمع تحت أشعة الشمس، وكأنِّي أعيش في بيروت في غرفتي الحاليَّة التي لا تُطلُّ على شيء. وقد تذكَّرتُ يومي الأول واعتقادي السابق، واستوقفتني الحالة التي أمسيت عليها من نسيان الجَمال الأول. فقصدتُ معلِّمي الرُّوحيّ -رحمه الله- الذي سَمِع هَواجسي بابتسامة، وقال لي بعد صمت قصير: "العادة تَقتل. احذَرْ من التَّعوُّد!".
قد نكُون اليوم عاجزين أمام كمِّ الألم والفقد، مِن جرَّاء ما يحدث في قُرانا ومُدننا في سوريا أو غيرها. يقتلنا العجز ببطء كالسرطان، أمام مَشاهد وأخبار عن أهلنا وناسِنا وأصحابنا وعائلاتنا. وربما نجرِّب الابتعاد عن الأخبار، أو نحاول تَجاهُل ما يَحصل؛ لعلَّنا نستطيع الاستمرار في حياتنا في المَنافي والمَهاجر، ولو بالحدِّ الأدنى من معاني الاستمرار، بل قد ينجح بعضنا في التَّعوُّد، فتتحجَّر أحاسيسُه، ويُمسي ما كان يبكيه في الأمس، لا يحرِّك في ظاهر مَشاعره شيئًا اليوم، وكأنها أخبار فلسطين التي تَعوَّدتُها صغيرًا، حتى فقدتُ الإحساس بها سنواتٍ طويلة. ربما هي آليَّات نفسية لاإرادية، تَحمي المرء من الغرق في كآبة لا عودة منها، أو هو جنون أو ما شابه.
"العادة تَقتل"؛ إذْ كما قتَلَت إحساسي بجمال الطبيعة، وبالإطلالة من شُبَّاك غرفتي في ذاك الدَّير، فيمْكنها مع الوقت أن تَقتل الإحساس بِفَدْح ما يحصل للإنسان في سوريا، أو اليمن، أو ليبيا، أو غيرها. ولا يمْكن أن نَقْبل كبشَرٍ واقِعَ تَعوُّد بعضنا -أو تَعوُّد العالَم- خبَرَ قصف المدنيِّين، واستهداف المستشفيات والمدارس، وسحْقِ الناس تحت رُكام منازل بَنَوها بِجَنَى عُمرهم. فأصبحَت مأساتُنا رقمًا عابرًا، ومصيبةً لم تَعُدْ تُؤَثِّر في كثيرين من الناس والمتابعين/ات.
أمَّا الرَّدّ على العنف بالعنف، فقد ثبت بالتجربة عدمُ جَدْواه، ولاأخلاقيَّةُ نتائج التجارب التي اختارت تطبيقه. وأمَّا الدِّفاع المباشر عن النفس -حتى ولو بقي حقًّا مقدَّسًا لا يمْكن سلبُه من الإنسان-، فإنَّ قرار اتِّخاذِه في معركة محسومة الخسارة في سبيل الدفاع عن النفس، يُصبح فعلًا أشبَهَ بالانتحار، ويبدو معه الهرب أو النزوح أكثر من مَرَّة -داخل البلاد أو خارجها-، هو الخِيار الوحيد والمُتاح.
أحيانًا قد يَحمينا "التَّعوُّد"، من السقوط في فخِّ الشُّعور بالعجز وتَبِعاته. ولكن، ما شكلُ العالم الذي نُؤَسِّس له اليوم؟ وماذا سنترك لجيل قادم من قيم وقوة إرادة، في حال استسلمنا اليوم طويلًا، لِتَعوُّد سماعنا ما نَعلم بحصوله كلَّ يوم لإخوتنا -القريبين والبعيدين- من حولنا؟ وأيُّ سلام وعيش معًا يمْكن أن يستمِرَّا، بعد فرضهما بشكل مصطَنَع، على حساب دماء المدنيِّين/ات ورُكام بيوتهم؟
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.