لم تَحظَ صفة أخلاقية بالحديث بها في القرآن وتأكيدها، مثلما حظيت صفة العدل، سواءٌ بمدحها والحثِّ على التزامها كما في قول الله: {وإذا حكمتُم بين النّاسِ أن تحكُمُوا بالعدلِ إنَّ اللَّه نعمَّا يعظُكُم به} [النساء: 58]، أو بذمِّ الظلم كما في قوله: {لا ينالُ عهدِي الظَّالمينَ} [البقرة: 124]. وعشرات الآيات في القرآن أمثالُهما. كلُّ ذلك حتى لا يَحصل تَعدٍّ بين البشر في حقِّ بعضهم بعضًا.
والسؤال: هل تقتصر هذه الصفة الأخلاقية العظيمة على الناس، بمعنى أن الله خالق هذا الوجود، والذي يفعل فيه ما يشاء، غيرُ متَّصف بها، بحيث إنه قد يُلزِم الناسَ من الأحكام ما يشاء بغضِّ النظر عن مقدرتهم؟ القرآن يُخبرنا بأن الله لا يكلّف النفس فوق طاقتها، فقال: {لا يكلّفُ اللَّهُ نفسًا إلَّا وسعهَا} [البقرة: 286]. فالتكليف فوق الطاقة ظلم، والله لا يظلم الناس، فقال: {وأنَّ اللَّه ليسَ بظَلَّامٍ للعبيدِ} [الأنفال: 51]. هكذا، يَتقرَّر العدل بكونه صفةً أخلاقية ملزِمة للبشر، ومُتَّصِفًا بها خالقهم.
لقد عالج المفكرون المسلمون مسألة العدل الإلهي، إلا أنهم دخلوا في جدل مذهبي، أخرج مفهومَ العدل عن مضامينه الاجتماعية وعن مراد الدين منه؛ فتَحوَّل إلى سلاح يكفّر به كلُّ فريق الآخرَ. فبدلاً من تأكيد أن الله لا يحاسِب الناس إلَّا على قدر فهمهم وطاقتهم، أَلْزَموا أنفسَهم معتقداتٍ محدَّدة لا يجوز الحَيْدَة عنها.
جميع البشر يدركون أن التنوع هو أمر حتمي قائم في كلِّ الوجود، حتى إنّ الصنف الواحد من الكائنات تجد فيه الاختلاف والتغاير. ومن حكمة الله أن جعل كلَّ ذلك متكاملًا. فتَكاد لا تستطيع أن تُلغي صنفًا منها حتى ترى الخلل باديًا على الانسجام الكوني، وعلى أقلِّ تقدير تُمحى زاوية من زوايا الجمال الطبيعي. والعلماء يدركون ذلك النقص عندما يتعرَّض صنف من الحيوانات أو النباتات للانقراض، ويعتبرون الإضرار بالطبيعة بما يؤدي إلى نُفوق بعض كائناتها هو تَعدِّيًا عليها، وبِلُغة الإيمان هو تَعدٍّ على خلق الله.
إن هذا التناغم المنبثَّ في الكون من التعدد والتنوع باتِّزان، يعتبره القرآن من العدل الإلهي، وأن الوجود كلَّه مركَّب على العدل، بحيث لا يطغَى صنف على آخر. فالسماء وهي القبّة الكونية العظمى، وُضعت بميزان عادل، فقال الله: {والسَّماءَ رفعهَا ووضعَ الميزانَ} [الرحمن: 7]. وإذ شهدنا أن التنوع الكوني مقرَّر في القرآن؛ فإنه ليس للتسلية وقضاء وقت للمؤمنين، وإنما لربطه بحقيقة إيمانية، وهي أن الله يتصف بالعدل، وأنه لا يؤاخذ الناس إلّا بما يَصدر عنهم من ظلم، وليس بما توصَّلوا إليه مِن تصرُّف أو معتقد، ما داموا قد سلكوا فيه للحقِّ سبيلًا.
عندما قال الله: {ومن آياتهِ خلقُ السَّمواتِ والأرضِ واختِلافُ ألسنتِكُم وألوانكُم إنَّ في ذلكَ لآياتٍ للعَالمِين} [الروم: 22]، فهو لا يقتصر على تقرير حقيقة مشاهدةٍ لكلِّ العقلاء، دون أن يوجِّه إلى غاية أخرى. فالتنوع في الألسن ليس مجرد اختلاف في النطق، بل يشير إلى ما هو أعمق منه، حيث ينبِّه إلى اختلاف التفكير وتمايز قدرات الناس، في تعقُّل الأشياء والمفاهيم والمعاني. كذلك يشير إلى اختلاف البيئات والمعارف والمجتمعات، التي تُنتج بشَرًا مختلفين في النظر إلى الأشياء، بل وفي النظر في الدين وأحكامه ومقاصده.
ليس من العدل الإلهي أن يُحاسَب الناس على ما يَفُوق سَعة فهمهم. وعليه، لا يؤاخذهم بالانتساب إلى أديانهم، ما داموا قد بذلوا جهدهم في التزام العدل والبعد عن الظلم، وبذلوا أيضًا جهدهم في محاولة الوصول إلى الحقيقة الإيمانية، والتي على رأسها التوحيد الخالص لله، وإفراده بالعبودية. وقد تَقرَّر ذلك في القرآن: {إنَّ الَّذين آمنُوا والَّذينَ هادُوا والنَّصارَى والصَّابئينَ من آمن باللَّهِ واليومِ الآخرِ وعملَ صالحًا فلهُمْ أجرهُمْ عند ربِّهِم ولا خوفٌ عليهِم ولا هم يحزنُونَ} [البقرة: 62]، أمَّا مَن يَعرف صدق التوجُّه إلى الحق، فهو الله وحده، بقوله تعالى: {إنَّ الَّذينَ آمنُوا والَّذينَ هادوا والصَّابئينَ والنَّصارى والمَجُوسَ والَّذينَ أشرَكُوا إنَّ اللَّه يفصِلُ بينَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ على كُلّ شيْءٍ شهيدٌ} [الحَجّ: 17].
وهكذا، عندما نستَجْلي حقيقة الدين في القرآن؛ نجدها تُفسِّر صفة العدل الإلهي الضامنة للتنوع بكلِّ أبعاده، ومنها الديني، بما هو واقعي واجتماعي ومفهوم لدى العقلاء، بعيدًا عن المصادرات التي تمارسها بعض التوجهات المنغلقة في الأديان.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.