في إحدى آخر مداخلاته، قال الراحل المفكّر الكبير كمال الصليبي (ت 2011): ليست المسألة مصير المسيحيّين في العالم العربي، بل المسألة مصير العروبة إذا غاب المسيحيّون عنها. لذا، فمسألَتَا الحضور المسيحي في المجتمعات العربيّة ومصيره، ليستا بَحْتًا حقوقيَّتَيْن، أو سياسيَّتَين، أو حتى دينيّتَين، بل هما حضاريّتان بامتياز. لذلك، يخطئ المسيحيون وغير المسيحيين عندما يحصرون طرح إشكالية التراجع الديمغرافي أو السياسي للمسيحيين، في المجتمعات والدول العربية من باب المحافظة عليهم، مثل من يحافظ على قطعة ثمينة من أثاث بيته. فالمسيحيّون ليسوا جزءًا من أثاث البيت العربي، بل هم ركنٌ من أركانه.
لهذا السبب، فإنّ غياب المسيحيين عن الحضارة العربية لا يقتصر على خسارة إنسانيّة أو اجتماعية، وفقدانٍ لنكهة هذا الحضور المميّزة، من صوت الأجراس في أزقّة حلب والقدس، إلى رائحة البخور في حي شبرا في القاهرة، إلى صلوات الرهبان في الصوامع والأديار المعلّقة على الجبال، أو في أعماق الوديان من دير مار بهنام في الموصل شمال العراق، إلى وادي قنوبين على أقدام غابة أرز الرب في لبنان، أو بهجة زينة الميلاد وزياحات الأطفال في الشعانين، وترانيم فيروز في أسبوع الآلام العظيم، إلى شذى الأنغام بلغة المسيح الآرامية في معلولا السورية، أو بالأرمنية في بيروت، أو باليونانية في عمان والإسكندرية، أو طِيبة إمْ جورج وعِزّة أبو مارون في مساعدة جيرانهما والتضامن معهم في أفراحهم وأتراحهم، إلى حماس هذا المدرّس في تلقين الأطفال اللغة العربية حافظًا معلّقاتها الشعرية وآياتها القرآنية، أو لهفة تلك الراهبة في معالجة المرضى ومواساة المحزونين وتشجيع المقهورين للصمود والرجاء لتكون لهم الحياة بِمِلْئها... كل ذلك مهمّ، ولكن يمكن الاستعاضة عنه برفاهة تكنولوجية، أو سياحة عالمية، أو علاقات فايسبوكية...
ما لا يمكن تعويضه في غياب المسيحيين عن العروبة، هو حضارة هذه العروبة. ليسوا وحدهم، ولكن على مثال جماعات ثقافية ودينية وإثنية أخرى، وخاصة المسلمين، ومعهم، يشكّل المسيحيون كما قلنا ركنًا من أركان الحضارة العربية، ورافدًا أساسيًّا يصبّ مياهه في نهرها، فيطبع ماءه بنكهتها. لقد عبّر المفكّر كمال الصليبي عن قلقه الوجودي وحتى الأنطولوجي بشأن العروبة؛ لأنّه كان يعلم أنه بدون المسيحيين تتحوّل هذه الحضارة العريقة إلى إيديولوجية. والسبب ليس لأنّ المسيحيين لا بديل عنهم؛ بل لأن التنوّع هو في أساس العروبة، وغياب المسيحيين عن مشهديّتها، يعني فقدان أهلها القدرة على عيش هذا البعد الحضاري في عروبتهم. في هذه الحالة تتحوّل الحضارة العربية إلى إيديولوجيا أحاديّة، متنكّرة لأساساتها وخانقة لآفاقها.
كيف لا والعروبة هي منذ نشأتها مساحة حضارية زاخرة بالثقافات المتعددة، والإثنيات المختلفة، والأديان المتنوّعة؟! وبهذا المعنى، ليست العروبة عِرقًا يُنتج عصبيّة قبائليّة؛ فالأمازيغي المغربي عربي مثل الأرمني السوري، والكردي العراقي، والقبطي المصري، والكنعاني اللبناني، واليمني، والخليجي. وليست العروبة إثنيّة ملتصقة بلسان وحروف أبجدية لا تَسَعُ حضارتُها ما يختلف عنها؛ فالماروني عربي وهو يكتب ويقرأ الكرشونية، أي اللغة العربية بأحرف سريانية، وقد كان بذلك سبّاقًا إلى المحافظة على هذه اللغة عبر طباعة نصوصها منذ سنة 1610 في دير مار أنطونيوس قُزْحَيّا في وادي قنوبين. ورهبان دير مار يوحنا الخنشارة هم عرب ويمارسون طقوسهم باليونانية، في حين أنهم طبعوا كتبهم الأولى باللغة العربية منذ العام 1734، مثلما الكردي والأرمني والقبطي والأمازيغي والتركماني، هم عرب وإن حافظوا جاهدين، أو أحيَوْا متحمّسين لغاتهم الأصيلة. وليست العروبة قوميّة إيديولوجيّة تصهر مَن بداخلها بِفكر واحد، وتلفظ مِن أمعائها مَن لا يقبل الذوبان في هذه البوتقة. فالتنوّع الفكري والثقافي والديني يشكّل الجهاز التنفّسي للحضارة العربية، وهي تختنق إنْ ضاق أفقها بهذا التنوّع.
رُبّ معترض أو منزعج لتسميتي للمسيحيين بالعرب، ومنهم من يفضّل تجنّب هذا التجانس خوفًا من الضياع والانصهار، أو لتجنّب التعامل مع جراحات الذاكرة المرتبطة لديه بهذا الإطار، أو لرهانه على مستقبل ثقافته الخاصة أمام انسداد أفق العروبة. حقٌّ للأشوري، والأرمني، والقبطي، واليوناني، والسرياني، والماروني، أن يُعرِّفوا بأنفسهم ويقاربوا ذواتهم عبر خصوصيتهم الثقافية الأصيلة، كما حقٌّ لهم تأكيدُ مشرقيّتهم التي تحدّد عروبتهم. والعروبة إن لم تستوعب ذلك، تكون قد فقدت قدرتها على أن تكون حضارة، وتصبح بدورها ثقافة خاصة دون أفقها الحضاري الجامع. والعروبة الأصيلة هي هذه الحضارة التي تكوّنت بفعل احتضانها لتنوّع ثقافي يُحسد على عراقته وغناه، ولا تدوم إلّا إذا تجدّدت حضاريًّا بالاستقاء من هذا التنوّع وزخمه المستجدّ. فلا عروبة إن لم يكن من مسيحيّين عرب، ولن يبقى مسيحيون عرب إن لم تبقَ العروبة حضارة.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.