تراوحت النظرة الدينية إلى العقل في كثير من الأحيان بين الاختزال والاستغلال، واقتصر دور العقل فيها على الإقرار والتأييد، لما جاء في المرويات والنصوص الدينية المقدسة.
لا يبرر الخوف على الدين الاستخفاف بالعقل، وتحجيم دوره في عملية التدين، وخاصة أننا في عصر قد بذل فيه العقل أعظم إنجازاته، وشملت معارفه المجرّات والذرات. فكيف لنا أن نحكم عليه بالعجز عن فهم أو نقد رواية نقلها الأجداد والأسلاف؟
صحيح أن العقل الإنساني لم يبلغ منتهاه حتى نتخذه مركزًا للحقيقة، لكن الأسس العامة لهذا العقل هي محل إجماع بين الناس، كما أن معقولية الدين هي التي تعطي للدين شرعيته، وإلا فإن أتباع كل ديانة سوف يزعمون أن معتقداتهم فوق العقل والإدراك.
ما ذكر الله العقل في القرآن إلا في موضع المدح، وفي أعظم مسائل الإيمان أقام القرآن حججًا برهانية تقوم على الاستدلال العقلي، وإذا كان الأمر كذلك في الإيمان بالله، فكيف بما هو دون ذلك من القضايا؟
لقد دفع العقل إبراهيم إلى البحث عن الله، عندما شرَع في نقد التصورات العَقدِيّة التي يؤمن بها قومه، حتى انتهى إلى استفراغ وسعه العقلي، وأسلم وجهه للذي فطر السماوات والأرض.
على الإيمان أن يعين العقل على إيجاد تفسير للتساؤلات الكبرى، التي لم يستطع عقله الإجابة عنها. فالنتيجة يجب أن تتسق مع العقل الذي يبقى محتاجًا إلى شيء من المسلمات الإيمانية، للقيام بمهمته الكبرى.
لا يخاطب الله عباده بما لا يعقلون؛ لأن في ذلك مخالفة للحكمة، ونقضًا للتكليف الذي أساسه العقل. ومن العلماء الذين أدركوا مكانة العقل وأولويّته، الإمام الطوفي الذي نادى باستقلال العقول بإدراك المصالح والمفاسد، وجعل المصلحة دليلًا شرعيًا مستقلًا عن النصوص. وممن أشار إلى المكانة العظيمة للعقل، الإمام الماوردي بقوله: "اِعلم أن لكل فضيلة أُسًّا، ولكل أدب ينبوعًا، وأُسُّ الفضائل وينبوع الآداب هو العقل، الذي جعله الله تعالى للدين أصلًا، وللدنيا عمادًا، فأوجب التكاليف بكماله، وجعل الدنيا مُدبَّرة بأحكامه. واعلم أن بالعقل تُعرف حقائق الأمور، ويُفصل بين الحسنات والسيئات" (أدب الدنيا والدين(.
أعطى القرآنُ العقل دورًا كبيرًا في النظر إلى النصوص الدينية، وجعله شاهدًا على صحة نسبتها إلى الله، وحَكمًا على تبيُّن انسجامها مع بدهيات العقول. كما في قوله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. فالتناقض دليل على عدم صحة المقولات، فكيف إذا كانت تلك المقولات منسوبة إلى مصدر الحقيقة والمعرفة المطلقة؟
إذا تعارض حكم العقل وظاهر المنقول، فإن البحث عن صحة المنقول هو الخطوة الأولى، فإن صحَّت الرواية، فإنّ البحث عن رفع التعارض يكون من خلال تأويل النص أو تخصيصه، لا من خلال قبول المعنى المخالف للعقل.
هناك فرق كبير بين قبول التصورات العقدية التي "يجيزها" العقل، وتلك التصورات التي "يرفضها" العقل. ومن هنا يمكن التعامل مع مفهوم "المعجزة"، الذي يُعدُّ أمرًا خارقًا لما اعتاده الناس من سنن وقوانين معرفية. فما اعتاده الناس من معارف لا يَحسُن التوقف عنده؛ لأن في ذلك خروجًا عن طبيعة المعرفة العلمية التي تستعصي على الجمود. وهكذا، لا تكون المعجزة ذريعة لتقويض شرعية العقل، ولكنها مهماز يفتح أمامه آفاق معرفة جديدة.
إنّ تضخم سلطة الدين قد فتح الباب واسعًا أمام تقويض دور العقل، الذي أصبح متهمًا حينما يقترب من مراجعة تلك المرويات. كما يعبر عن ذلك المعرِّي بقوله:
"في كلّ جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها *** فهلْ تَفَرّدَ يَومًا بالهدى جِيلُ؟".
وإلى جانب الشك في المرويات والعقائد، يرتدُّ الشك أحيانا على العقل نفسه، كما في الشعر المنسوب إلى فخر الدين الرازي:
"نهاية إقدام العقول عقال *** وأكثر سعي العالمين ضلال".
أو كما يعبر عنه إيليا أبو ماضي في طلاسمه:
"ألهذا اللغو حلّ أم سيبقى أبديّا
لست أدري... ولماذا لست أدري؟
لست أدري!".
نعم، قد لا يبلغ العقل نهاية المعرفة المطلقة، ولكنه يبقى مركب الإنسان الوحيد الذي يُبحر به، صوب جزيرة الحقيقة المفقودة.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.