يتميز الدير القبطيّ بكونه مهد النظام الرهبنيّ في العالم الذي انطلق مع القدّيس المتوحّد “أنطونيوس المصريّ أبو الرّهبان” (251 ـ 356م). يُطلق اصطلاح “دير” على مكان إقامة الرهبان وانفرادهم للعبادة مع الله، وفيه عادة كنيسة أو أكثر.
خلال القرون الثلاثة الأولى الميلاديّة، امتلأت الصحارى والجبال بكثير من الأتقياء الذين وجدوا في الحياة الرهبانيّة المسيحيّة طريقًا مثاليًا للخلاص والظّفر بالحياة الأبديّة.كانت الأديرة في البداية عبارة عن مغارات و”قلالي” منفردة في القفار البعيدة عن بعضها البعض، بعدها أخذ الرهبان المتوحّدون بتركيز صفوفهم في مناطق معينة حول قلالي الآباء الروحيّين للكنيسة القبطيّة. و”القلالي” هي (المحبسة أو الحجرة الخاصّة بالراهب في الدير). يعتبر القدّيس “باخوميوس” (292-346م) أوّل من أسّس ديرًا بالمعنى المعروف اليوم في العام (318م) في طبانيس بصعيد مصر، وطوّره بما يتلاءم واحتياجات الجماعة الرهبنيّة. وبدأ بعدها بوضع قوانين ونظم دقيقة، تخضع لها الجماعة الرهبنيّة كلّها بكبيرها وصغيرها، ولما ضاق نطاق الدير الأوّل برهبانه، أخذ القدّيس “باخوميوس” في تأسيس أديرة أخرى، وهكذا امتلأت الصحراء المصريّة بجماعات الرهبان.
تطوّرت عمارة الدير تدريجيًّا، في البداية بُنيت الكنائس لإقامة الصلوات، كان يجتمع الرهبان فيها يوميّ السبت والأحد من كلّ أسبوع، ومن ثمّ ظهرت المائدة التى تجمع الرهبان كلّهم بعد حضور القدّاس لتناول وجبة بسيطة صارت تعرف باسم "الأغابي" أي (وليمة المحبّة). وكان لا بدّ من وجود بئر للماء، وفرن لتجهيز الطعام والقربان، ومخازن، فتحوّل الدير إلى مجمّع من الأبنية المتلاصقة المحاطة بالأسوار والحصون، التي تحتضن في داخلها الكنيسة بملحقاتها.
“السماء بكواكبها ونجومها لا تعادل برّية شيهيت برهبانها ونسّاكها”.
القديس يوحنا الذهبى الفم (347-407 م)
يتكوّن الدير القبطيّ عامة من بناء رباعيّ، تدخّلت الطبيعة الجغرافيّة الصحراويّة القاسية بشكل جوهريّ في خصائصه المعماريّة، ويتجلّى هذا في السور الضخم العالي العازل للحرارة والبرودة المحيط به، واستخدمه الرهبان كذلك كحصن دفاعيّ لصدّ هجمات البربر. لهذا السور مدخل واحد يُفضي إلى الفناء الداخليّ الذي يضمّ عادة مجموعة من الأبنية العالية شبه المتلاصقة ببعضها، والمفصولة بممرّات مكشوفة ضيّقة، تؤمّن ظلًّا يحمي المارّة والمباني من الحرارة الشديدة، وتقلّل من تعرّضهم لأشعة الشمس المباشرة.
وبهذا تحوّل الدير إلى مجمع من الأبنيّة، التي تتوزّع على مباني الحصن والقلالي وكنيسة أو عدّة كنائس تحتضن في العادة مدافن قدّيسين ورهبان، إضافة إلى بئر ماء ومخازن ومطاحن وأحيانًا كثيرة مكتبة ومطبعة. تتميّز هذه الأبنية بجدرانها السميكة وقببها، وبندرة الفتحات الخارجيّة من شبابيك وأبواب، كما بالألوان الفاتحة البيضاء التي تغطّيها من الداخل والخارج لتعكس الضوء والحرارة. وتتّخذ بعض الأديرة أشكالًا معماريّة مختلفة منها المعلّق بين الصخور كدير مار مينا العجايبي "الدير المعلق" في أسيوط، أو الـمُشادة داخل مغارة في الجبال كدير العذراء "درنكة" في جبل أسيوط الغربي.
يعتبر الدير القبطيّ عبر الزمن أيقونة الحضارة القبطيّة المسيحيّة، لكونه حصن التراث الكنسيّ القبطيّ وخزانة النتاج الفنّيّ الثقافيّ والعلميّ الحضاريّ والمعماريّ القبطيّ على مرّ العصور ومنها دير سانت كاترين في سيناء، ودير مار مينا العجائبي في الاسكندريّة، دير الأنبا أنطونيوس في البحر الأحمر.