في أمكنة منعزلة محفورة في الصخر، وضمن مغاور طبيعيّة وتجاويف مختبئة بين تلافيف صخور الجبال العاليّة، وفي الشواهق الصخريّة للوديان البعيدة، توزّعت المحابس التي سكنها الرهبان النسّاك، الذين تقصّدوا العيش متوحّدين بعيدًا عن العالم، في ظروف حياة قاسية جدًا، منقطعين عن الناس، مكرّسين حياتهم لله، اقتداًء بالمسيح الذي انعزل أكثر من مرّة في الصحراء ليصوم ويصلّي. “المحبسة” في اللّغة هي (مقام الحبساء المنقطعين عن الناس، الزاهدين في الدنيا، الساعين إلى توحيد ذواتهم مع الله وتوحيد الجنس البشريّ في الله). وتدعى في الحياة الرهبانيّة في التراث السريانيّ الأنطاكيّ “يحيدُيوتا”.
كانت المغاور المعلّقة بين السماء والأرض هي الملاذ الأوّل للنسّاك المسيحيّين الأقدمين من أيّام الرومان (القرن الثالث ميلاديّ) التي التجؤا إليها بداية هربًا من الجور والظلم، وما لبثوا أن التجؤا فيها إلى تعميق صلتهم بالله. بعض هذه المغاور نحتتها الطبيعة بأكملها وبعضها الآخر حفرها الرهبان المتنسّكون أو أضافوا إلى بعض التجويفات الصخريّة جدرانًا من الحجارة الصخريّة المثبّتة بالطّين اتّقاءً للعوامل الطبيعيّة. هناك بعض المحابس المبنيّة بأكملها من حجارة صخريّة طبيعيّة وطين ومسقوفة بألواح خشبيّة، تجاور عادة الأديرة النائية وسط المساحات الخضراء. ما يميّز المحبسة هو صعوبة الوصول إليها، وتكون عادةً عبر دروب راجلة ضيّقة محفوفة بخطر السقوط عن مئات الأمتار نحو الوديان العميقة نظرًا لوجودها في طبيعة جغرافيّة مرتفعة ووعرة ونائيّة. كذلك قديمًا كان لكلّ دير محبسته، إذا لم نقل محابسه، فالحياة المكرّسة عند الإنطاكيّين السريان، بكل فروعهم، تدعى حياة "الإيحيدُيُوتا"، وتعني(حياة التوحد).
"إن المحبسة امتداد طبيعيّ للدير، وكمال الحياة الرهبانيّة… فيها سَفَرٌ من الخارج إلى الداخل، من العالم الماديّ إلى الروحيّ، من الآخرين إلى الذات، من الصلاة إلى التأمّل، من المخلوقات إلى الخالق، من محاربة الأعداء الظاهريّين إلى محاربة الأهواء والميول."
بتصرّف، للأب جوزف قزي، تحقيق هالة حمصي، نشر في جريدة النهار16/6/2001
بعض المحابس لا يمكن الوصول إليها إلاّ تسلّقًا واستغوارًا، وقد أظهرت آخر الإكتشافات (عام 2013م) في وادي قاديشا المقدّس (قنّوبين- لبنان) مجموعة من الفجوات والكهوف الصخريّة الطبيعيّة العصيّة على الناس؛ وتبيّن أن نسّاكًا متوحّدين أقاموا فيها منذ دخول المسيحيّة إلى المنطقة. وتمتاز بضيق مساحتها إذ يكاد بعضها لا يتّسع إلاّ لرجل واحد، ولا يستطيع الحبيس أن يقف فيها لانخفاض السقف الصخريّ للفجوة، بل كان يتنقّل فيها حبّوًا على الركب واليدين، ويقتصر تواصله مع جماعته على مساعدته في دخول الفجوة التي لا يمكن الولوج إليها إلا بالحبال، وتأمين ما يحتاجه من طعام بواسطة سلّة مربوطة بحبل تُدلّى من الأعلى أو تُسحب من الأسفل، وفق موقع المغارة/المحبسة. وكان الحبيس متى دخل إلى هذه الفجوة الصخريّة لا يخرج منها، بل يمضي حياته فيها. ولعلّ السريان سمّوا قديمًا هذا الوادي "وادي الذخائر" بسبب عظام وثياب الحبساء التي اعتبروها ذخائر مقدّسة تركها هؤلاء بعد وفاتهم في هذه الكهوف العاصيّة.
لا تحوي المحبسة أيّ أثات أو تشكيل زخرفيّ، سواء كانت ضمن مغارة طبيعيّة أم في فجوات صخريّة أم أبنية حجريّة مربّعة مكوّنة من غرفة واحدة أو عدّة غرف بنوافذ خشبيّة؛ ويمضي فيها الحبيس عزلته التي تستمرّ عشرات السنين في الصلاة والتأمّل. وتقتصر الموجودات عادةً على صليب وشموع توضع على حافة حجريّة، وأحيانًا على بعض أواني الكنيسة، أو بعض الصور الدينيّة على الحائط، وعلى الارض فراش رقيق فقط، حيث يتوسد الحبيس الحجر أو قطعة من الخشب. في لبنان عدّة محابس أهمّها محبسة دير قزحيا (1716م)، ومحبسة دير مار مارون عنايا (1798م)، وأبرز حُبسائها القدّيس شربل.