الكنائس المشرقيّة هي أمكنة مكرّسة أساسًا للاحتفال بالقدّاس الإلهي. تتميّز بهندسة معماريّة قديمة جدًا تعود بجذورها إلى المباني المسيحيّة الأولى، المبنيّة في الجزء الشرقيّ من الإمبراطوريّة الرومانيّة في القسطنطينيّة (بيزنطية القديمة- القرن 4 ميلاديّ)، على مثال كنيسة “آيا صوفيا” التي شُيّدت على أنقاضها “بازيليك القدّيسة صوفيا الكبيرة” في القرن السادس ميلاديّ.
ترتكز عمارة الكنائس البيزنطيّة على مخطّط يتّخذ شكل صليب يونانيّ له أذرع متساوية. تعلو البناء قبّة مُشادة بأسلوب يميل للبساطة، ترمز إلى اجتماع السماء والأرض والتي تُشكّل صلب الليتورجيّة "القدّاس" الشرقيّة.
يرتكز بناء الكنيسة على محور شرق – غرب، ويسبق رواقٌ غالبًا صحن الكنيسة، بينما تستضيف نهايته الشرقيّة المعاكسة المذبح. يُفصل "المذبح" عادةً كفضاء مقدّس، يرمز إلى السماوات وحيث يُقدّس الكهنة، عن "صحن الكنيسة" الذي يرمز إلى العالم حيث تصلّي الجماعة المؤمنة. في البداية كان المذبح يُفصل بواسطة ستارة، على مثال الستارة التي كان يُخبّئ بها قدس أقداس الهيكل في القدس، واستخدم انطلاقًا من القرن التاسع ميلاديّ الحائط المسمّى: "الأيقونوستازيس" أو (الحاجز الأيقونيّ). يتميّز هذا الحائط بثلاثة أبواب، ويرمز للثالوث الإلهيّ، وهو مصنوع غالبًا من الخشب ومزيّن بعدد كبير من الأيقونات. وقد ظلّت هذه العمارة وفيّة لهذا الإرث المعماريّ بعد وصولها إلى روسيا، بدءًا من القرن الحادي عشر ميلاديّ، حيث لعب الرهبان الذين بنوا الأديرة والكنائس هناك الدور الرئيس في عملية النقل هذه.
الأيقونوستازيس أو الحاجز الأيقوني هو حدٌّ يفصل العالم الإلهيّ عن عالم البشر، وهو الصلة أيضًا بين هذين العالمين الذي يجمعهما في كلّ واحد عبر الصور؛ في الواقع، تعبّر هذه الصور عن حالة الكون حيث يُلغى كل انفصال، حالة من مصالحة الخليقة مع الله، وعيش السلام الداخليّ.
ليونيد اوسبينسكى (1902-1987)
مع مرور الوقت، رغم الاستمرار والوفاء لهذا المنحى المعماريّ، فقدت الهندسة الخارجيّة للأبنية الدينيّة بساطتها الأولى، واتجهت نحو غنى فنّي معماريّ، وخاصة في النطاق السلافيّ حيث ظهرت القباب الملوّنة، والأروقة المزدانة بالأعمدة والواجهات المشغولة والمزخرفة أحيانًا بالفسيفساء الملوّنة.
بشكل عامّ، بقي الجزء الأكبر من الإبداع في العمارة منصبًّا على المساحة الداخليّة احترامًا للتقاليد. وقد غاب فنّ النحت نظرًا للتحريم الذي طاله في القرن الثامن ميلاديّ، فاعتُمدت الفسيفساء والرسم بديلًا يُظهر روحانيّة المكان. وتبرز هذه الخصوصيّة في القبب الملوّنة بألوان السماء، حيث تُقدّم القبّة المركزيّة عادة صورة عن "المسيح ضابط الكلّ" الـمُشعّة بكلّ ما فيها من عظمة، وتغطّي الجدران مجموعة كبيرة متنوعة من الأيقونات، التي تصوّر مريم، ويسوع والرسل، أو الشخصيات الأساسيّة في الكتاب المقدّس والتاريخ المسيحيّ، ولكنها لا تنقل أبدًا صورةً للإله الآب. في التقليد الشرقيّ لا تعتبر هذه الأيقونات مجرد أعمال فنّية، لما لها من طابع قدسيّة وقداسة ولكونها حاملة صلوات المؤمنين.