تَعِجّ الساحة الثقافية ووسائل التواصل، بالأفكار النقدية للواقع العربي والتراث الديني والأفكار الرائجة، وتتفاوت في القيمة والعمق. بل إنه توجد مؤسسات ثقافية أُقيمت من أجل النقد، تحت شعارات التجديد والإصلاح والتنوير. وكلُّ هذا يدلّ على الحاجة الماسّة إلى النقد، لتَجاوُز الأزمات المزمنة وحلّ المشاكل الشائكة التي نعانيها جميعًا، وعلى رأسها التخلّف والتطرّف والاستبداد.
لقد كان الربيع العربي مناسبة لتحفيز الهمم والآمال. فظهرت عدّة مبادرات تسعى لتشكيل رُؤًى جديدة، وبِناء واقع اجتماعي مختلف. وعلى الرغم من أجواء اليأس والإحباط التي سادت إثر انتكاس عدة ثورات عربية، فإنّ هذه المحاولات لا تزال متواصلة، لأن الحاجة لم تَنْقَضِ، بل ازدادت حدّة. ما يُلاحَظ هو التنافس الشديد بين هذه المحاولات، التي تنقسم أساسًا إلى معسكرَيْن أيديولوجيَّيْن: علماني وديني، فضلًا عن الانقسامات الداخلية ضِمن المعسكر الواحد. ويرجع الانقسام أحيانًا إلى التوترات السياسية التي تشهدها المنطقة، فتنعكس الصراعات بين الجهات الراعية على المؤسسات الثقافية التابعة.
التنافس مِحَكّ الأخلاق ومعيار جِدِّيّةِ الادِّعاءات. فما دام التنافس بعيدًا عن أساليب التكفير والتخوين والتجهيل والتشكيك في النوايا والطعن في الأشخاص، فهو تنافُس مشروع وطبيعي في مجتمع تعدّدي متنوّع. ولكن، يا للأسف، لا تزال حلبة التنافس تَغصّ بالسِّباب والأحقاد والإقصاءات؛ ما يدفع إلى التفكير أَإِذا كانت محاولات التجديد جزءًا من الحلّ أم من المشكلة! فقد يتشابه الخصمان اللدودان إلى حدّ التطابق في السلوك، على الرغم من تناقض شعاراتهما.
إن الحَفْر النقدي وحده لا يكفي. فلا بد من طرح بدائل، وإعطاء إجابات ولو كانت مؤقّتة ومفتوحة. فكثيرًا ما يتساءل أهل النقد عن محدودية تأثيرهم الاجتماعي، أمام انتشار الفكر الأُصولي التبسيطي. والسبب في ذلك، أن الشباب متعطّش إلى إجابات تروي ظمأه إلى المعنى، وتعطيه أُفقًا للحركة والنشاط. فيجد أمامه الطرح الأُصولي، السهل الواثق الواعد بملكوت عرضُه السماوات والأرض، في حين لا يجد في الطرح النقدي سوى الأسئلة الحائرة، والورشات المفتوحة والمشاريع الأوّلية. وهي أسئلة تَجذب إليها عادةً مَن جاوز سنّ الشباب، أو من كان أُصوليًّا "سابقًا". فبعد موجة الحماسة، يميل الفكر إلى المراجعات، والابتعاد عن المثاليَّات الأيديولوجية.
السُّوس الذي يَنخر النُّخب الثقافية ويَحدّ من مصداقيتها، هو نفسه الذي ينهش النخب السياسية. إنه التحزّب والتطيّف والاصطفاف الأيديولوجي، وإنهاكها في صراعات هامشية. وهذا في الحقيقة ما يجعل الأسئلة النقدية -مع جرأتها الظاهرة- محدودة الأفق، وغير قابلة لنقد ذاتها، وتُجاوِزها إلى أسئلة جديدة. هذا ما يذكّرني ببعض الشركات الفاسدة التي تُطيل من مدة تنفيذ المشروع، لأجل التحايل واستنزاف الجهة المموّلة، وكأنها لا تريد للمشروع أن ينتهي، لأن فيه مُبرّر وجودها واستمراريتها. أيضًا توجد نَوادٍ فكرية، من مصلحتها أن تبقى الورشات مفتوحة بنفس الأسئلة القديمة الجامدة. فتصبح المشكلة مضاعفة، وهي العجز عن الإتيان بإجابات وعن تجديد الأسئلة، في آن معًا.
إن النقد الذي لا يُتيح فسحةً للأمل والرجاء، لهُوَ نقد ميت، لأنه يهدم القديم ولا يبني جديدًا، وقد يُفضي إلى القطيعة والبتر، لا إلى الإصلاح والتجديد. ولكن، حتى القطيعة تقتضي طرح البديل الجذري، الذي يُرجى منه أن يكون أفضل من سابقه مُنقضي الصلاحية. وإلّا فما فائدة النقد؟! ففي كلّ الأحوال، سواءٌ تَعلّق الأمر بالقطيعة أو بالإصلاح، يظلُّ الطرح البديل ضروريًّا، ولا بد من أن يُطرح بطريقة تربوية بنّاءة، تَبعث في الناشئة مَلَكتَين أساسيَّتَين، هما: النزعة النقدية وعدم القبول السهل للأفكار من ناحية، والقدرة على الحُلم والخيال الخلّاق الذي يَجرُؤ على الإتيان بالجديد ولا يخشى الخطأ، لأنه جزء من المسار وعلامة على الحيوية والإبداع، من ناحية ثانية.
أسوَأُ الأيديولوجيات، تلك التي تُعلن موت الأيديولوجيا، وتدّعي العِلميّة المطلقة والحياد التامّ. لسنا محايدِين ولو حرَصْنا؛ ما دمنا نتحدث بأنفسنا وبمصالحنا وتاريخنا ومستقبلنا. نسعى للموضوعية قدر الجهد والإمكان، ولكنَّ وَعْينا بالبعد الأيديولوجي في أفكارنا، أيْ جانب التطلعات والرغبات، لهو أفضل من إخفائه كذبًا على أنفسنا، أو تغريرًا بغيرنا. لدينا مآرب وتوقّعات ينبغي تأطيرها بالوعي النقدي، وبالانفتاح على نقد الآخرين لنا، الذين لديهم هُم أيضًا أغراض ومآرب، فلا عيب في ذلك. فلنترك نهر الأفكار يجري حرًّا في أوديتنا وشعابنا، كما يجري خارج الضفاف المرسومة والحياض المعلومة، وَفْق منطق لا ينكشف لنا أوّلَ وَهلة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.