يُخْبرنا القرآن أن الله قد أرسَل الرُّسل إلى كلِّ أُمَّة من الأمم {وإِن مِنْ أمَّةٍ إلَّا خلا فيها نذيرٌ} [فاطِر: 24]. لكن القرآن لم يَذكر لنا سوى أسماء عدد محدود منهم، بلَغ خمسةً وعشرين رسولًا بحسب قول كثير من العلماء. ومِن الرُّسل مَن ذُكرت أسماؤهم في كتب الرواية والتفسير، بناءً على ما قصَّهُ القرآن من أخبارهم دون أن يصرِّح بأسمائهم، مثل: فتَى موسى (يوشع بن نون) (انظُر الكهف: 60)، والنبي شمويل (صموئيل) الذي طلب منه بنو إسرائيل أن يبعث لهم ملِكًا ليقاتلوا معه (انظُر البقرة: 246).
لقد اختلف العلماء في إمكانيَّة نبوَّة ثلاث من الشخصيات التي ذكرها القرآن، وهم: ذو القَرنَين، وتُبَّع، والعبد الصالح (الخضر). وأيضًا اختلفوا في أسماء رُسل أهل القرية الثلاثة، الذين ذَكرَتْهم سورة يس (الآيتان: 13-14).
مع انفراد القرآن بذكر بعض أسماء الأنبياء والرُّسل، الذين لم يَذكرهم الكتاب المقدَّس، وهم: هُود، وصالح، وشُعَيب، وذو الكِفْل، ولُقْمان، إلَّا أنّ أغلب الرُّسل الذين ذكَرَهم القرآن هم من أنبياء بني إسرائيل. وهنا يثور التساؤل عن حكمة أنْ يكُون لأُمَّة بني إسرائيل عشرات الأنبياء والمُرسَلين، في حين لا تَحظى الأُمم الكبرى في الصين أو الهند أو اليابان، بذِكر رسول واحد لهم!
وعلى هذا الأساس، بقي النقاش محتدِمًا حول إمكانيّة نبوّة عدد من الشخصيات الدينية لدى الشعوب، كما هو الحال مع "بوذا"، الذي قال عنه الشهرستاني في كتابه الملل والنحل: "وليس يُشبَّه البدّ -على ما وصفوه إنْ صدَقوا في ذلك- إلّا بالخضر الذي يُثْبته أهل الإسلام". وذهب القاسمي في تفسيره، إلى القول بنبوَّته في سياق تفسيره لسورة (التين) قائلًا: "والراجح عندنا، بل المحقَّق إذا صحَّ تفسيرنا لهذه الآية، أنه كان نبيًّا صادقًا ويسمَّى (سكياموتي) أو (جوناما)". وأيضًا ذهب إلى القول بنبوَّة بوذا، الكاتبُ الهندي "دي محمد"، مستدلًّا بقوله تعالى: {وإِسمَاعيلَ وَإِدريسَ وذَا الْكِفْلِ كلٌّ مِن الصَّابرينَ} [الأنبياء: 85]. فاسْمُ "ذا الكِفْل" يشير بحسب رأيه إلى صاحب "كافيلا فاستر"، المدينة التي وُلد فيها بوذا. وهناك من ذهب إلى أن لقمان هو الفيلسوف اليوناني "سقراط". وأيضًا ذهب بعض الباحثين إلى إمكانية نبوَّة زرادشت، ولاوتسي.
في مقابل هذا النقاش، أكَّد القرآن أن عدم ذِكر قصص أغلبية الرُّسل هو أمر مقصود: {ورسُلًا قَد قصَصناهُم علَيكَ مِن قَبلُ ورسُلًا لَمْ نَقصُصهُم علَيكَ} [النساء: 164]. ولعلَّ الحكمة في عدم ذكر القرآن لقصص هؤلاء الأنبياء وأسمائهم، هي تأكيد أنّ القرآن ليس موسوعة تاريخية؛ وإنما هو كتاب هداية يقدِّم لنا نماذج من المعرفة الدينية، التي من شأنها أن تَنهض وتَحفِز الهمم والعقول على البحث والتفكير.
وبعيدًا عن المفهوم الشائع لشموليَّة النصِّ القرآني، فإن القرآن الكريم لم يأت ليَحسم النقاش ويُنهي الحوار في القضايا الدينية كلِّها؛ وإنما ترك المجال واسعًا أمام العقل الإنساني ليبحث في تراث الأمم والشعوب، في محاولة لاكتشاف معاني الحكمة ومكارم الأخلاق في ذلك التراث، الذي امتزج فيه تراث الشعوب بتراث المُرسَلين.
إن موقف القرآن من الأديان والرِّسالات السابقة، هو موقف متحرِّك يستجيب لاتِّساع نطاق المعرفة الإنسانية. وقديمًا وُجدَت بعض الاجتهادات الفقهية، التي أَلحقَت بعض أتباع الأديان بأهل الكتاب، من خلال مفهوم مُبدَع وهو "مَن لهم شِبهُ كِتاب". وهذا يعني إمكانية توسيع نطاق مَن تشملهم تسمية أهل الكتاب، التي بقيت محصورة في أذهان الكثيرين، في أتباع موسى وعيسى عليهما السلام!
إن معرفة تاريخ الأديان، هي عمليّةٌ قَيْد التشكُّل والتّبَلوُر. وعليه، فلا مجال لأَنْ يَحسم أحدٌ مصائر الأمم والشعوب، التي سكت القرآن عن ذكر أنبيائها قصدًا. فالعدالة الإلهيّة جعلَت الثواب والعقاب مشروطَيْن بالمعرفة الجليّة لِمَا جاء به الرُّسل، بعيدًا عن العوائق التي تَمنع الاستجابة. وهو أمرٌ يَصعب التكهُّن به، حتى لمن يعرف تاريخ الأمم والشعوب.
إن الاعتراف بمَحدوديّة المعرفة، وباتِّساع مساحة المجهول، يَحفِز العقل البشري على المعرفة والاكتشاف. فالدَّهشة والفضول والشعور بالنقص والجهل، ذلك ما يحتاج إليه العقلاء؛ وليس الشعور الخادع بالكمال والقبضِ على المعرفة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.