قد تبدو لنا الحضارات الأخرى مُبهَمة أحيانًا، وقد تبدو لنا شعوب الأرض المختلفة غريبة الأطوار. مشاعرنا تجاههم عادة ما تُغذِّيها معلوماتٌ من هنا وهناك، وأخبار العائدين من تلك البلاد أو الزوّار، كلٌّ حسب تجاربه التي قد يكون الكثير منها مغلوطًا. تبقى القراءة هي أكثر الوسائل نجاحًا للتعرُّف إلى الآخر.
الأدب بالذات قد يُعطينا انطباعات حقيقيّة عن شعوب الأرض المختلفة، والأدب العالميّ المترجَم للعربيّة غنيّ. معرفة حيوات الشعوب من خلال الأدب، تمدُّ جسور التفاهم والتقارب بين البشر، والقارئ العربيّ المُتمعّن في الأدب الغربيّ، أقدرُ على فهم الثقافات المختلفة، وأكثر معرفةً بالمتشابهات بينها، ولعلّ بعض الروايات العالميّة الشهيرة أكبرُ مثال على ذلك.
تُساعد القراءة على الاضطلاع بتحدّيات البشر الجامعة على هذا الكوكب. فالفقر والفقد والظلم والألم، تحدّيات قد يجتمع حول مائدتها الملايين. مشاعر متشابهة تعترينا عند قراءتها، سواءٌ عربيًّا كان الأدبُ أو غربيًّا مُترجَمًا. تتوحّد الأحاسيس بين البشر، لترسم لوحات المعاناة الإنسانيّة الموحّدة. تلك المعاناة قادرة على قلب مشاعر الكراهية الناتجة من سوء الفهم، إلى مشاعر متفهّمة جامعة للبشر تحت راية الإنسانيّات.
قد يتعاظم هذا الفهم بقراءة الأدب بِلُغته الأصليّة، وتعلُّم اللغات وإجادتها ينقل الفرد المُثقّف من مرحلة المعرفة إلى مرحلة التأثير، ويجعل منه جسرًا للتواصل بين البشر في البلدان المختلفة، وهذه ميزة لا يشعر بها قارئ الأدب المترجم. معرفة لغة الآخر ليست بهذا التعقيد، في زمن لا تحتاج فيه المعرفة إلى أكثر من الإرادة القويّة والشغف.
اليوم، تستطيع إتقانَ لغةٍ بدون الولوج في أرضها. فالمواقع الإلكترونيّة المعرفيّة والتطبيقات الذكيّة، تُساعدك على تَخطِّي أوّل درجة في السُّلّم الأوّل في إجادة اللغة. أمّا الانتقال من مرحلة الابتداء إلى مرحلة متقدّمة، فيَجري بقراءة الأدب، معَ الاستعانة بمواقع الترجمة المتوافرة بكثرة عبر الشبكة العنكبوتيّة. ولا ننسى الترفيه الذي يكسر جمود القراءة الأدبيّة، عن طريق متابعة الأفلام والمسلسلات باللغة التي نريد تعلّمها. كلّ ما ذُكر، لم يعُدْ يَفرِض أيّ عبءٍ مادّيّ على الراغب في المعرفة؛ فكلُّه متوافر اليوم، ولا يحتاج إلى أكثر من "كَبْسة" زِرٍّ، وإنْ كان يَتطلّب إرادةً ورغبة جامحة في التعلم. فهل استفاد العربيّ مِن هذه المعرفة المجّانيّة، كما استفادت منها الشعوب المختلفة؟! الواقع يعكس أمرًا مغايرًا.
ما تزال الإحصاءات عن قراءة الفرد العربيّ تُظهر ضعفًا ملموسًا، بالمُقارنة معَ نُظَرائه مِن جنسيّات مختلفة. خللٌ غير مفهوم، خصوصًا في أوساط الشباب الساعي للتطوير الذاتيّ، معَ تَراجُع في المُخْرَجات التعليميّة في بعض الدول العربيّة، ويظهر هذا جليًّا لكلّ مُتابِع لوسائل الاتّصال الاجتماعيّ، حيث لم يعُد الكثير من الشباب العربي قادرًا على التعبير بطلاقة، حتّى بلغته الأُمّ. تهديدٌ يجعل الشابَّ العربيَّ خارج إطار المنافسة العالميّة في أسواق العمل.
القدرة على التعبير -حتّى باللغة الأُمّ- أصبحت ضعيفة، فضْلًا عن التعبير بلغات أُخرى؛ ما يُهدّد حالة التفاهم والانسجام بين البشر. ولعلّ أكبر دليل على ذلك، الاختلافات التي تتطوّر إلى صراعات، بسبب ضعف الحوار وركاكته، وعجزه عن إيصال الفكرة بطريقة بنّاءة. والمُتابع للحوارات التي تتطوّر إلى إشكاليّات على وسائل التواصل الاجتماعيّ، سواء بين مواطني الدولة الواحدة أو الدول المختلفة، يُلاحظ أنَّ أغلب الإشكاليّات أنّما ينتج من سوء التعبير والأسلوب.
في هذا الإطار، ظهرت مبادرات هامّة لتشجيع الفرد العربيّ على القراءة، وخصوصًا منذ مرحلة الطفولة؛ على اعتبار أنّ القراءة ممارسة وموهبة، إنِ اعتادها الطفل رافقَتْه في مراحل عمره المختلفة. هذا التشجيع أخذ طابع المنافسة الإيجابيّة، من خلال مبادرات هامّة أطلقَتْها بعض الدول العربيّة، والتي شمل تأثيرها الإيجابيّ مئات المدارس في العالم العربيّ.
إنّ الآثار الإيجابيّة للقراءة لا يُمكن حصرها في مقالة، ولكنّ الأهداف الحقيقيّة منها لا تتحقّق إلّا بالتنويع في مصادر المعرفة، وهذا في حدّ ذاته تَحدٍّ يُواجه القارئ العربيّ؛ إذ إنّ الفكر لن يتغذّى إلّا إنْ تنوّعت ينابيع المعرفة، والقارئ الذي يلجأ إلى نوع واحد من الكتب التي تعزّز اتّجاهه الفكريّ، لن يتطوّر فكريًّا أو معرفيًّا.
ليس الهدف من القراءة تبنّي اتّجاه الكاتب. فقد تتبنّاه، وقد ترفضه كلّيًّا، وفي أحسن الحالات سيتبلور لديك اتّجاه جديد. الغرض من القراءة لم يكُن يومًا التبعيّة؛ إنّما توسيع الآفاق واستقلاليّة الفكر، وهذانِ تمامًا ما نحتاج إليهما في زمن التبعيّةِ العمياء للشخوص، والرفضِ لكلّ آخَر مختلف.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.