ما يُغرَس من أفكار في عقول الطلبة عن أنفسهم ومجتمعهم وتاريخهم، يحدِّد لاحقًا مواقفهم من الشعوب الأخرى. فإمَّا يَغرس في داخلهم أن الحضارة الإنسانية إنتاج بشري مشترك ساهمت فيه جميع الشعوب والحضارات، أو يغرس فيهم أن مجتمعهم أو جنسهم هو شعب الله المختار الذي خُلق بمميزات لا يتمتع بها بقية البشر. ومن هنا تنشأ مشاعر الازدراء للآخرين، ولمعتقداتهم، وأديانهم، وعاداتهم، وقدراتهم، وإسهاماتهم، ويبدأ الفرد الصغير يتخيل أن الجنس البشري يتكون من عدة درجات يقف هو وقوميته على قمتها، ويجري تغذية ذلك الاعتقاد بدروس يركَّز فيها على مضامين التفوق والتفرد، ومنها أن شعبه هو الذي قدم للإنسانية ما لم تقدمه الشعوب الأخرى، أو أنه الأكثر ثقافة في ما بينها، أو أنه الشعب الذي لم يُهزم في تاريخه، أو الذي قاد إلى تحرير الشعوب.
إنَّ مُضِيَّ بعض الأنظمة التعليمية في منطقة الشرق الأوسط على تعزيز فكرة شعب الله المختار لدى طلَبَتِها، مع ما يتبع ذلك من تصوير الشعوب الأخرى بصفات سلبية، لن يقود إلا إلى مزيد من الصراع والصدام مستقبلًا. فعلى سبيل المثال: كشفت دراسة قام بها نبيل العتوم حول صورة العربي في المناهج الإيرانية، أن هذه المناهج تصف الإنسان العربي بصفات سلبية كالكاذب والمخادع وغير الحضاري، وتؤكد أن الفرس قدموا التضحيات للدفاع عن الإسلام الحقيقي، وأنهم يسعون إلى إنقاذ البشرية، لكن العرب يقفون ضد هذا الطموح. وانتقد المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن، إقصاء التاريخ المسيحي من المناهج الدراسية في تقرير بعنوان "المناهج الدراسية ودورها في احترام الآخر الديني". وتُظهر فلسفة التربية لإحدى الدول الخليجية أنها مسؤولة عن إعداد الطالب للدفاع عن الإسلام، نتيجة المميزات التي تحظى بها دون بقية الدول الأخرى. ويرى الأتراك أن المناهج العربية تعمد إلى تكوين عداء لهم، من خلال تدريس الطلبة العرب أن الدولة العثمانية كانت دولة محتلة غزت الوطن العربي. ويصف اليهودُ العربَ في مناهجهم بأنهم متخلفون اجتماعيًّا، وأنهم بضع قبائل تتشاجر فيما بينها، ولديهم عادات وتقاليد لا تمتُّ إلى الحضارة بصلة. وعلى هذا، كيف يمكن تحقيق الاحترام والسلام، في ظل شحن المناهج الدراسية في المنطقة بهذه الصور السلبية؟
إن العداء يُنقل من جيل إلى آخر، ويرحل من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل، دون رغبة صادقة في حماية أجيال الغد مما عانتْهُ أجيال الأمس واليوم، من ويلات تلك الكراهية وذلك الاستعلاء، اللَّذَين لا يساعدان على إيجاد شخصية متعددة الأبعاد، تنظر إلى الآخرين بعقلية منفتحة. وذلك إنما يقود إلى بناء شخصية ذات بعد واحد، تحمل عقلية إلغائية إقصائية. لقد فعلها الألمان من قبل وقالوا إن العِرق الآري هم أرقى الشعوب، وقادهم ذلك إلى الاستعلاء والكبرياء، وإلى التعصب لجنسهم؛ ما أسفر عن ملايين الضحايا خلال الحرب العالمية الثانية.
إن المناهج الدراسية لكي تنزع من العقول "فكرة شعب الله المختار"، لا بد أن تركز على النقاش والحوار في الغرف الصفية حول ما يُدرَّس في الحضارة الإنسانية، بحيث يُدرَّس التقدم والتفوق بطريقة منهجية تنطلق من مجموعة من الأسئلة، منها: مَن تفوَّق على من؟ وفي أي زمان كان ذلك؟ وما المعايير التي تستخدم لتسويق التفوق؟ هل هي معايير روحية إنسانية، أم معايير استبداد وسيطرة؟ هل هي معايير علمية وثقافية، أم معايير مادية؟ لا بد أن تكون هذه الأسئلة محل الاهتمام في ما يجري تدريسه في التاريخ، والتربية الوطنية، أو التربية الدينية لدى الشعوب والحضارات؛ لأن تفوق حضارة أو شعب في بعض الجوانب المادية، لا يجعله يبلغ ذروة الكمال الإنساني. فكل الحضارات الإنسانية مرت بفترات انحطاط وتقدم، والحضارة المتقدمة اليوم قد تتفوق عليها حضارة أخرى، والشعب الذي يملك أحد أسباب التقدم المادية قد يوازيه شعب آخر يملك أسباب التقدم الروحية، والتوازن الروحي السليم هو الذي يعوَّل عليه اليوم في إيقاف الحروب والدمار والكراهية، التي تفتك بكثير من البلدان في المنطقة. فإنْ لم تُراجَع هذه الإيديولوجية التعليمية، فسوف تدفع المنطقة ثمنًا مضاعفًا عما دُفع من قبل.
لا بد من حقن المناهج الدراسية بمضامين إنسانية سامية، تقلل من النزعة إلى الاستعلاء في النظر إلى الشعوب الأخرى، فالناس يعودون إلى أب واحد هو آدم، ولا فضل كما جاء في القرآن الكريم لأي منهم إلا بالعمل الصالح، وبعمارة الأرض بالعدل. يقول الله تعالى في سورة الحُجُرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الآية: 13]. ولذا، فإن المُضيَّ في التعارف الإنساني بين الشعوب المحيطة، يُعدُّ خطوة مهمة من أجل الخروج من فكرة الشعب المختار، وهذا الخروج يتطلب مضامين موضوعية ومحايدة في تناوُل المناهج الدراسية لهذه الشعوب، لِسماتها وفضائلها ودورها في صناعة الحضارة الإنسانية، بدلًا من تقديم صورة مشوهة سلبية عنها تؤجج الكراهية، وتنمي مشاعر الخوف من الاقتراب لتحقيق التعارف والحوار اللَّذَين يساعدان على بناء جسور للتعاون. وحين تُبنى جسور التعاون، تتهاوى أفكار الفوقية والاستعلاء. فهل ستتجه المدارس في المنطقة إلى بناء مناهج تحقق التعارف، وتسهم في هدم الحواجز الوهمية بين الشعوب؟ هذا سؤال يتطلب الاهتمام من قبل جميع الأطراف المعنيين بالتنشئة والتكوين، والمختصين في المناهج الدراسية.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.