في الأخبار: في عَدَن باليمن "أحمد"، وجه طفل حزين، أُضيفَ إلى صفوف اليتامى والمتشردين بعد أن فقد عائلته. مئات النساء أُرغِمن على امتهان التسول، مَعطوبات يُعانِين بصمت وأنَفَة. موت جامح أصبح جزءًا من بداهة المشهد اليومي، وجزءًا من الإحصائيات والتحليلات "السياسية". واقع يزعج صلابة لامبالاتنا.
في مناطق عديدة من العالم العربي، أصبح الإنسان عُرضة للتدمير والامتهان تحت وطأة العنف الطائفي، والتحالفات الإستراتيجية، والحروب بالوكالة. حروب "مقدسة" تُنذر بخطر الارتكاس في الهوية الطائفية الأساسية. وإلى جانب العامل الجيوإستراتيجي، تُشكِّل الأفكار والعقائد مَدخلًا مُهمًّا إلى فهم ارتفاع منسوب العنف، وتَجذُّر فكرة الصراع الديني، بمُوازاةٍ مع تمدُّد الصراعات واتخاذها طابعًا عابرًا للدول. ثم إنّ تكريس العنف يأتي في سياق التنافس الطائفي، حول التفسير "الحقيقي" للإسلام.
مع أن جهات عدة تسعى لاستغلال خطوط التصدع الطائفي والانقسامات الدينية، إلَّا أننا هنا أمام تفسيرات جانبية. فلا أؤمن بنظرية المؤامرة، وأعتقد أن المسؤولية الداخلية هي الأساس التفسيري. لقد عمِلَ الخطاب الديني الطائفي على القنوات الفضائية والإنترنت، على بث عقيدة الكراهية والتلاعن اللاهوتي. وفي خِضمّ النزاعات العسكرية صِيغت الكثير من الفتاوى، التي تدعو إلى خوض المعركة الفاصلة بين "الحق" و"الباطل"، وتشكَّلَت ميليشيات عقائدية لنصرة الحق، وإبادة أهل الباطل من "المرتدين".
في سوريا قُتل نحو ربع مليون شخص، وحُكم بالتشرد والتِّيه على الملايين. هل يعي رجال الدين حجم المأساة الطائفية التي تُكتب بدماء المسلمين؟ هل يَعُون حجم مسؤوليتهم أمام الله تعالى: {وإذا المَوءُودةُ سُئِلَت، بأيِّ ذَنبٍ قتِلَت}؟ مَن سيحاسب مَن كانوا دعاة على أبواب جهنم؟ هل فكروا في تداعيات خطاب التكفير، واستعمال مفاهيم الفرقة الضالة أو الفرقة الناجية؟ هل فكروا كيف أن الدين الذي يُفترض فيه أن يكون قوةَ تحريرٍ للعقل ولِأَنْسَنة المجتمعات، أصبح مصدر تقديس للعنف وصُنع الجهالات المقدسة، وأنه بِسبب تَشوُّه ثقافتنا الإسلامية، وصَلْنا إلى الإدارة الدينية لِلرُّعب؟
داخل هذا التدمير المُمَنهج للإنسان، وهو جزء من تاريخ إهدار الدم في العالم الإسلامي، تُطرح إشكالية المسؤولية الأخلاقية للعقائد الدينية، والإفلاس الأخلاقي للمرجعيات الدينية المهيمنة في العالم الإسلامي. فكيف تُسترجع المسؤولية الأخلاقية لِمرجعياتنا المذهبية؟
أعتقد أن كتاب (رجل العلم والسياسة) لِـ"ماكس فيبر"، يمنحنا مَدخلًا قويًّا إلى تفكيك الخطاب الديني الممجِّد للعنف. يميِّز ماكس فيبر في كتابه بين نوعين من الأخلاق أو الضمير:
-أخلاق الاقتناع (أو التقليد)، التي تتجلَّى في مركزية العقيدة، من خلال سلوك يتخلَّى فيه الفرد عن مسؤوليته، ليضع المسؤولية على الإرادة والمشيئة الإلهية.
- أخلاق المسؤولية (أو الحداثة): يخضع الوعي الأخلاقي لمفهوم المسؤولية. فالفرد يتحمل بنفسه مسؤولية نتائج الأفعال، التي يأتي بها انطلاقًا من قناعته.
يسمح هذا التمييز بتأسيس الجماعة الأخلاقية، على أساس القاعدة الذهبية المشتركة بين كل الأديان: "عامِلِ الآخرين كما تُحبُّ أن يعاملوك". يقول النبي محمد: "لا يُؤْمِن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه". مبدأ تُلخِّصه القاعدة الأخلاقية كما صاغها كانط: "لن يكون فِعلنا فعلًا أخلاقيًّا إلَّا إذا كانت له صبغة القانون العام. أي إنّ ما يمسُّني يجب أن يمسَّ الآخرين"؛ ما يستلزم قاعدة أنه إنْ كان المرء "يريد أن يصدر عنه فعل أخلاقي حقيقي، فهو مُطالَب بأن يعامل ذاته وذات الآخرين كغاية لا كوسيلة". أمَّا خطاب تكفير الآخر، فليس غاية بل وسيلة، وأداة لا قيمة إنسانية لها، أو أداة لإثبات التماسك اللاهوتي للجماعة. بعدها يتحول الفعل العنيف إلى نوع من النبوءة المحققة لذاتها Self-fulfilling prophecy لإيهام الجماعة بأنها الجماعة المختارة، وذلك بدل السعي لتجاوز الجماعة الدينية التاريخية، إلى الجماعة الأخلاقية ذات الطابع الكوني.
أعتقد أن صحوة دينية حقيقية، تَعني إعادة ربط الخطاب الديني بنتائجه على المستوى الإنساني. فلا يجب على الدين مطلقًا، أن يمنح أيًّا كان مبرِّرًا شرعيًّا لممارسة العنف. الحقُّ والحقُّ، أنَّ الدين الحقَّ لا يعني مقدار الحقيقة في قناعاتنا، بل قدرة التأويل الديني الإيجابي على جعل العنف شيئًا لادينيًّا على المطلق.
إن أخلاق المسؤولية تعني أن نفسح مجالًا للإنسان داخل الدين، إذ إنه كما يقول "أمارتيا صن": "لا ضرورة لأن تكون ديانة المرء كلّ هويته على وجه الحصر".
{فَنَفَخْنَا فيه مِن رُوحِنا}. أقول: إلهي، إنه حُزنك، حُزن الطفل أحمد. إنها روحك، تلك التي يقتلونها باسمك، فاشهد !
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.