ما إنْ أُعلِنَتْ أسماءُ أعضاء الحكومة الفِنْلَنديّة، وجرى نشر صورة رئيسة الوزراء ذات الأربعةِ والثَّلاثين عامًا، حتّى انتشرَت التَّعليقات المُرحِّبة والمُتحسّرة على الحال العربيّ، الَّذي لا يَحلُم فيه شابّ أو شابّة بمنصب كهذا، خصوصًا وأنّ هذه المناصب تبدو محجوزةً منذ زمن لأسماء مُحدّدة مِن الرِّجال، الَّذين تجاوزَت أعمارهم –على الأغلب- السّنَّ القانونيَّ للتَّقاعد.
نفْسُ المُعلِّق المُتحسِّر على الفارق بين العالَمَيْن، هو نفْسُ المُصفّق للدِّيمقراطيّة الفِنلَنديّة وجمال رئيسة وزرائها وشبابها. وقد تجِدُه في منشورات سابقة، مِن أكثر المُعارضين لتعيين امرأة عربيَّة في أيِّ مَركز قياديّ، بل إنَّك قد تجده مُعارِضًا أيضًا للتَّحرُّك النِّسائيِّ ضدَّ العنف، الَّذي بدأ منذ سنوات، ووَصل أَوْجَهُ بخروج المرأة -ومعها الرَّجل المُؤمن بقضيّتها- إلى الشَّارع؛ للمُطالبة بسَنِّ قوانين تُجرِّم كلَّ أشكال العنف ضدَّ المرأة، خصوصًا معَ التَّصاعد الجُنونيّ في حالات العنف المَنزليّ، في الأردنّ وفلسطين وبلاد عربيّة أُخرى في الشُّهور الماضية، حيث أَضْحَتْ أخبار العنف والقتل شِبْهَ يوميّة على مائدة الأخبار العربيّة.
هذه الازدواجيّة، نراها بوضوح في التَّعامل معَ كلّ ما يخصُّ المرأة في العالم العربيّ. فنفْسُ التَّصرّف -الَّذي يحظى بالتَّرحيب والتَّهليل إنْ بَدا مِن امرأة أجنبيّة-، يتعرّض للهجوم والرَّفض -وأحيانًا للتَّكفير- إنْ كانت المرأة المَعنيّة عربيّة أو مُسْلمة، وكأنّ المرأة هنا مختلفة التَّكوين والرَّغبات، عن المرأة في أيّ مكان في العالم. وهذا أبعَدُ ما يكُون عن الواقع.
المرأة العربيّة نفْسُها، ساهمَت بشكل غير مباشر في تكوين هذه الازدواجيّة، الَّتي أدَّت إلى إساءَة فهمها، والتَّعامل معها ككائن مختلف عن المرأة في أيّ مكان آخر. فأغلبُ النِّساء لم يُعبِّرْنَ، ولم يَعترضْنَ، ولم يُناقشْنَ، والدَّافع دائمًا هو الخوف. سنواتٌ طويلة مِن القمع، زَرعَت في نفس المرأة العربيّة الرَّهبةَ مِن التَّعبير عمّا تُحبُّ وتَرغب، والخوفَ مِن تقييم المجتمع وردود فِعلِه، وعواقبِ المجاهرة بالأفكار والآراء المخالفة للسَّائد منها. هذا الخوف لا يتجسّد في عدم التَّعبير فقط، بل يتعدّاه إلى الهجوم على كلّ امرأة تَمْلك الجرأة هجومًا مبالَغًا فيه؛ بهدف الدِّفاع، وكأنّها في هذا تَنفي عن نفسها التُّهم، وتُبالغ في جلد المُختلِفة الجريئة، للحفاظ على صورتها المثاليّة في المجتمع، والحصول على تقييم مرتفع للأخلاق.
هذا الخوف مِن التَّعبير، أدّى إلى وُجود مجتمع لا يَفهم المرأة إطلاقًا، وإلى علاقات مُشوّهة بين الرِّجال والنِّساء. فالرَّجل يتحدّث بِاسم الرَّجل عمّا يَرغب، والرَّجل كان يتحدّث –عقودًا طويلة- بِاسم المرأة عمّا تَرغب فيه أيضًا، بل إنّ أغلب الرِّجال حتَّى الآن يتحدّثون بِفِطرة المرأة، وهم لا يَعلمون عنها شيئًا. فهي تَسمع وتُوافق، خوفًا مِن الآثار الجانبيّة للاعتراض. أمَّا المرأة الَّتي تتحدّث وتُعلن وتعترض، فتُتَّهم في أخلاقها وتُجلَد وتتأذَّى. والنتيجة شيوع الكذب والنِّفاق، وادّعاء الفضيلة، والظُّروف المزدوجة لكلٍّ مِن الرَّجل والمرأة.
"أنت فاضل حتَّى تُكشف"، مبدأ شاع واستشرى. أنت فاضلٌ، ما دُمتَ تفعل ما تشاء في الخفاء والسِّرّ. وعليك -كي تَدفع التّهم عن نفسك- بالاستعلاء على الآخرين، والمبالغة في الهجوم عليهم؛ ما يُفسّر برأيي انتشار الفضائح في عالمنا العربيّ كالنَّار في الهشيم، إذ يكفي أنْ يُعَنوَنَ الخبر بكلمة "فضيحة"، حتّى يحظى بأكبر قدر مِن المشاهدة والقراءة والمشاركة.
نحتاج إلى وقفة معَ أنفسنا ونحنُ على أعتاب عام جديد، ونحتاج إلى إعادة تعريف القيم الأخلاقيّة ووضْعِها في إطارها الصَّحيح. إنَّ فهْمَ المكوّن الإنسانيّ بكلّ تعقيداته، سيُساعدنا على فهم أنفسنا وفهم الآخرين المختلفين عنّا، وسيجعلنا أكثرَ تسامُحًا معَ الخطأ، وأكثرَ مغفرةً لمَن يُخطئ، وأكثرَ تفهُّمًا لآراء الناس وميولهم، وأكثرَ احترامًا لدياناتهم وأفكارهم المختلفة وقراراتهم الشَّخصيّة وحرِّيَّاتهم الخاصَّة، الَّتي يجب أن تكُون مَصُونة بالقانون أيضًا.
عَمُود الفضيلة هو الصِّدق؛ والإنسان المنافق لا يُمكن أن يكُون فاضلًا. فالفاضل هو الَّذي يُعبّر عن إنسانيّته، وعن دواخله ونَزَعاته الدَّاخليّة بين الخير والشَّرّ، وبين الرَّغبة والتَّمنُّع، وليس هو مَن يُنكرها، لأنّه يُنكِر بذلك تكوينَه كإنسان. إنَّ الفاضل الحقيقيّ هو المتصالح معَ نفسه، والشُّجاعُ الَّذي يَملك شجاعةَ الاعتراف بالخطأ والخطايا، لا ادّعاء الكمال الموهوم، وجَلْد الخطّائين الَّذين ليسوا سوى بشرٍ يمارسون إنسانيّتهم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.