يَذهب عالِم الأَنثروبولوجيا الإسكُتلَندي "جيمس فريزر"، في كتابه "الغصن الذهبي"، إلى وجود ثلاث مراحل تَطوَّر فيها العقلُ البشري على مرِّ العصور، تبدأ من السِّحر، ثم الدِّين، وتنتهي بالعِلم. وتمتاز مرحلة السِّحر عند فريزر، برغبة الإنسان في إخضاع الطبيعة باستخدام الطلاسم والتعاويذ، قبل أن يَشْرَع في الاعتقاد بالآلهة والتقرُّب منها.
إن مشكلة التفكير السِّحري هي مشكلة قديمة، امتَزج فيها الشعور بالعجز عن تفسير الظواهر الطبيعية، بالهواجس والمَخاوف والطُّموحات، التي تَجُول في المُخيِّلة البشرية. ومن المنظور الأَنثروبولوجي، يُعدُّ الاعتقاد بالسحر من أقدم المعتقدات البدائية السَّاذِجة التي شاعت بين الشعوب، ولم يكن هذا الاعتقاد مُنجَزًا خاصًّا بأتباع ديانة بعينها. ومع اختلاف الباحثين في تاريخ الأديان، حول أسبقيَّة المعتقدات السحرية أو الدينية، إلّا أنهم يَكادون يُجْمعون على وجود كثير من التداخل والتأثير بينهما.
خلافًا للدِّراسات الأَنثروبولوجية التي تؤكِّد بشَريَّة السحر، يَعتقد معظم أتباع الأديان أن مَصدر السحر والطِّلَّسْمات، هو مَصدر سماويّ وروحاني. ولم ينجح في الإفلات من سُلطة هذا الاعتقاد، أكثرُ المفكِّرين الدِّينيِّين عقلانيّةً، كما هو حال ابن خلدون، الذي يقول في مقدّمته: "علوم السحر والطِّلَّسْمات هي علوم بكيفيَّة استعدادات، تقتدر النفوس بها على التأثيرات في عالَم العناصر، إمَّا بغير مُعين أو بمُعين، من الأمور السَّماوية. والأوّل هو السحر، والثاني هو الطِّلَّسْمات". كذلك لم يَتجاوز القدِّيس "توما الأكويني" في خلاصته اللاهوتية، القناعةَ السائدة في عصره، وذهب إلى أن السَّحرة يستطيعون عمل العجائب "بواسطة الأرواح الشِّرّيرة، ولكنها ليست أعجوبة كاملة".
هنا، لا بد من الاعتراف بتأثير الفكر السِّحري في تراثنا الديني الإنساني، سَواءٌ أَبِوَعيٍ كان ذلك الاختراق، أمْ بدون وعي. وفي جميع الأحوال، لا يمكن قبول تَوقُّفِ عمليّة البحث والمراجعة لتراثنا البشري، واقتصارِها على الأسلاف، خاصة ونحن في عصرٍ، قد بلغ فيه العِلمُ منزلةً تتجاوز ما كان يَحلم به الأسلاف.
مِن السّهل نقدُ الفكر السِّحري، عندما يكُون خارج منظومتنا الثقافية. لكن المشكلة تَكمن في الأفكار السحرية "الداخلية"، التي صِيغت كمُسلَّمات قَطْعيّة، يَحظُر على العقل الولوج في حَرَمِها.
يجب الأخذ بالاعتبار أن ثَمَّة مَخاوف كبيرة، لدى كثير من المتديِّنين المدافعين عن السحر، وعمَّا يتَّصل به من معتقدات كالعين والحسد والتلبُّس، في أن يؤدِّي عدمُ الاعتراف بالسحر، إلى نفي المعجزات والكرامات! أيضًا يمكن أن نَلمح قناعة خاطئة بل وقاتلة، بين كثير من أتباع الأديان، مُفادُها أن إثبات وجود ظواهر غير قابلة للتفسير العلمي والعقلي، هو المَدخل الأمثل لإقناع الناس بوجود كائنات غيبيّة، وبتصديق العقائد الدينية.
إن التشابه في مَواقف أتباع الأديان من السحر، يؤكِّد وجود مشكلات مشترَكة بين المنظومات الدينية المختلفة، وأيضًا يؤكد العلاقة الوطيدة بين شيوع التفكير السحري في المجتمعات، ومشكلاتِ الخطاب الديني، الذي يجعل الاعتقاد بالسحر والعين والحسد، من مُقتضَيات الإيمان بالله وكُتبه ورُسله!
وهنا، نَذكر ما جاء في دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائيّة، في مصر عام 2015، بأن نسبة المِصريِّين الذين يؤمنون بالخُرافات، يمثِّلون 63% من المجتمع المِصري، وأن ما يُنفقونه سنويًّا على الدَّجّالين والمُشَعوذين يبلغ 1.4 مليار دولار! ولنا أن نتصوَّر كيف سيكون الأمر لو أُنفقَت هذه الأموال في بناء المدارس وتطوير التعليم، أو في مواجهة الفقر والبطَالة؛ إذًا لكان حالُ المجتمع أفضلَ بكثير!
عندما نتعامل مع السحر باعتباره مرحلةً بدائيّة لفهم الطبيعة، ومحاولةً ساذِجة لاكتشاف القوانين التي وراءها، فإننا نكُون قادرين على فهم مسيرة المعرفة وتطويرها. أمّا عندما نتعامل مع السحر باعتباره عقيدة سماويّة ترتبط بالإيمان بالله والملائكة، فإن ذلك سوف يُشرّع للسحر، ويُعيدنا إلى سذاجة الإنسان البدائي.
ولنا أن نتأمّل اليوم فيما بلغَته المعرفة الإنسانية، مِن: ولوج في الفضاء، واكتشاف للشَّفْرة الوراثية، والاستنساخ، وتِقْنِيَّات الاتِّصال المرئي، وتسخير الطاقتَين النَّووية والشمسية، وغيرها من المُنجَزات العجيبة للمعرفة. وبعدَها، فَلْنُقارن هذه المنجزات بما يَدَّعيه السَّحَرة والمُشعوذون!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.