إنه خبر الصفحات الأولى، والفقرة الأولى، في برامج الفضائيَّات. تهجير، أو نزوح، أو هروب مواطنين مصريين مسيحيين، من شمال سيناء، وذلك بعد سلسلة حوادث إرهابية استهدفت عددًا منهم، قتلاً، وحرقًا لبيوت، وترهيبًا لأفراد. موجة الإرهاب التي يتعرض لها مصريون مسيحيون في شمال سيناء، ربما تكون ضمن اعتداءات عاتِيَة، تثيرها جماعات إرهابيَّة متطرِّفة هناك، منذ تمَّت إزاحة حكم جماعة الإخوان المسلمين، الذي جثم على صدر مصر للإبقاء على البلبلة وعدم الاستقرار. وربما أيضًا تنفِّذها جماعات بلغ تطرُّفها أقصاه، وهي لا تختلف كثيرًا في فحواها عن غيرها، من حوادث مماثلة جرَت على مرِّ العقود القليلة الماضية، ولكن في أماكن أقلَّ سخونة.
فمنذ انتشار المدِّ الديني المتطرِّف في مصر في أواخر سبعينيَّات، وأوائل ثمانينيَّات القرن الماضي، والمصريُّون اعتادوا حادثًا هنا، أو واقعةً هناك، مشكلةٌ بين عائلة مسلمة، وأخرى مسيحية، أو علاقة عاطفيَّة بين مسلم ومسيحية، أو مسلمة ومسيحي، أو خلاف على ملكيَّة، أو جيرة، أو لعب الصغار أو ما شابه. تشتعل الأمور، ويُجيَّش السكان من الديانتين كلٌّ في معسكره، ويتحوّل الأمر -أو يكاد- مواجهةً طائفيَّة مُزْرية. وتتفاقم الأوضاع، وتتصاعد الاعتداءات التي غالبًا ما تكون موجَّهةً من الأكثرية إلى الأقلِّيّة، بعدما تكون أيادٍ خبيثة قد أجَّجَت المشاعر، وألهبَت مكامن الغيرة على الدين.
وقد اعتاد المصريون أيضًا أن تُحلَّ مثل هذه "المشكلات الصغيرة" - كما جرى العُرف على تسميتها– عبر جلسات عُرفية غير رسمية، يحضرها ممثِّلو الدولة، وكأنهم قبيلة مجاورة، أو عائلة متاخمة تساعد على إبرام الصلح، وإحلال الوئام. وتعريف الوئام في هذا الصدد يكون عادة: الاتفاق على نزوح الأسرة المسيحية عن المكان، حتى لو لم تكن هي المُعتدية. قرى عدَّة شهدت سيناريو مشابهًا على مرِّ السنوات. ومِن كَرَم السماء، تهدأ المشاعر، وتُقهر الضغائن، وتمرُّ الأيام، وتستمرُّ الحياة، وذلك إلى أن تشتعل مجدَّدًا في مكان آخر، وبسبب مغاير.
هذه الأيام، هي تصعيد لحوادث عدة شهدتها محافظة شمال سيناء، منذ هبوب رياح الربيع الشتوية في كانون ثاني (يناير)2011، مرورًا بفترة حكم الإخوان، وحتى استشهاد سبعة مواطنين مسيحيين خلال الأيام القليلة الماضية. صحيح أنَّ الوضع في شمال سيناء يختلف عن بقية البلاد، بِحكم محاولات حثيثة تبذلها جماعات الإرهاب الملتحفة بالدين، والتي تدين بالولاء لـ"داعش"، لكن النبرة التكفيرية زاعقة. ففي أيام ثورة كانون ثاني (يناير)2011، استُهدِفت كنائس بالحرق والنهب والتهشيم، واستُهدِفت محلاَّت، وأٌضرِمت النيران في محالات وبيوت، والتَزمَت الجهات الرسمية إِمَّا الصمت، أو المساعدة على النزوح، أو الخروج بتصريحات مسكِّنة مهدِّئة. هذه النبرة التكفيرية ارتفعت بشكل واضح عقب إسقاط حكم الإخوان، وبات الاستهداف موجَّهًا إلى رجال الشرطة والجيش لكونهم "حامين للطاغوت".
وأخيرًا، تواترت عمليات قتل المواطنين المسيحيين هناك. وسواء كانت هذه العمليات دقًّا على أوتار تكفير الآخر، أو تفعيلاً لمخططات ممنهجة لبث الفُرقة ونشر الفتنة، يبقى سؤال يبحث عن إجابة: أمَا وقد فٌتِحت أبواب البلاد على مصاريعها منذ ما يزيد على أربعة عقود، أمام نسخة بالغة التشدد والتطرُّف للتديُّن، فماذا نحن فاعلون؟ هذه النسخة التي تعتبر كل ما عداها كافرًا أو مرتدًّا، وتحوي درجات تطرُّف تتراوح بين الدعوة إلى القتل، أو التشديد على عدم التعامل مع الآخر، أو الإبقاء على التعاملات في أضيق الحدود؛ فلا تَناوُل طعام معه، ولا تعاطُف أو مساعدة في وقت الشدة، ولا تهنئة أو مشاركة في أوقات الأزمة. هذا الفكر تغلغل، وجعل من المسيحيين "إخوة"، ليس "مواطنين"، وذلك في حال عدم التكفير.
صحيح أن كثيرين يرون في التكفير نبرة متطرفة، أو توجُّهًا مفرطًا في التشدد، لكن يظل الفكر المغلوط المائل للتشدد مهيمنًا مسيطرًا، لا سيما في ظِل اعتبار الجهات الدينية الرسمية دعوات تجديد الخطاب الديني، وتنقيتها مما علق بها من تطرف، مجرّد توحيد لِخُطب الجمعة، أو مقالٍ عن السماحة والحداثة، أو مؤتمر يتحدث عن التجديد، مع الإبقاء على عدم التجديد.
الأخطر من قتل شخص ما على خلفيَّة انتماءاته العقائدية، هو شعور بعضهم من حوله بأنه يستحق القتل، ولكن دون المجاهرة بذلك، أو بأنه كان الأجدر به أن يعتنق عقيدة أخرى، أو أنه يطلب له المغفرة دون الرحمة، لأن الرحمة لا تجوز عليه.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.