الرجوع

المواطنة الحاضنة للتنوّع

الخميس

م ٢٠١٧/٠٣/٠٢ |

هـ ١٤٣٨/٠٦/٠٤

لقد سبقت بمئات السنين فكرة المواطنة وترجمتها العمليّة، فكرة الأنسنة وبلورتها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948). يُظهر هذا الواقع أنّ المواطنة هي سبيل للأنسنة، وأنّ الرقي الإنساني مرتبط بتطوّر مفهوم المواطنة، وتحقيقه العملي. فأهمّ ما أسهم فيه نشوءُ المواطنة، هو انعتاق الإنسان من السلطة المفروضة عليه، والوصاية المرتبطة بها، والتي تسخّره لما تراه هي مناسبًا لها ولمصالحها. فانعتاق الإنسان من الوصاية السلطوية، جعل منه فردًا يتمتّع بهويّة شخصيّة وكيان معنوّي، يسمح له بتحديد مصالحه والدفاع عنها. فاستقلاليّة الفرد، وتفاعله مع غيره في سياق حيّز مشترك، بهدف المشاركة في إدارة شؤونهم العامة، أنتج المواطنة.

في بداياتها، أخذت المواطنة شكلاً فئويًّا مبنيًّا على التمييز بين الناس، كأحرار وعبيد، أو رجال ونساء، أو أهل المدينة والغرباء، فتمتّع الرجال الأحرار، أهل المدينة في أثينا الإغريقيّة، في القرن الرابع قبل الميلاد، بالمواطنة، وحُرم الآخرون منها. استمرّ هذا النموذج سائدًا في ظل الإمبراطوريّة الرومانيّة، مع توسّع تدريجي في إعطاء صفة المواطن، لتشمل في (212 ميلادي) جميع سكان الإمبراطوريّة وفق مرسوم كركلا. وفي ظل الحكم الإسلامي المتعدّد الأشكال، عرفت مناطق شرق البحر المتوسّط وجنوبه نموذجًا شبيهًا من المواطنة الفئوية، التي تُميّز بين المواطنين على أساس انتماءاتهم الدينيّة، في سياق المفهوم الجماعوي للدولة. أمّا في الغرب، وتحديدًا أوروبا، فقد عرفت المواطنة تراجعًا في فترة القرون الوسطى، حتى قيام الثورة الإنكليزيّة في القرن السابع عشر، وتبنّي الثورة الفرنسيّة "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" سنة 1789. جاء في هذا الإعلان "أنّ جميع الناس يولدون ويبقون أحرارًا، ومتساوين في حقوقهم الطبيعيّة، والتي لا يمكن انتزاعها منهم، وهي: الحرية، والملكية، والأمان، ومقاومة الظلم" (بند1-2)، و"أن لا أحد فردًا كان أم جماعة يستطيع أن يمارس سلطة غير نابعة من سيادة الأمة" (بند 3). فانتقل بذلك الغرب، من المواطنة الفئويّة إلى المواطنة القوميّة، ومفهوم الدولة-الأمة القائمة على مبدأ الانصهار.

لقد بيّنّا في مقال الأسبوع الفائت، أن المواطنة القوميّة تُعاني التعثّر في التعامل مع التنوّع الثقافي، الذي تزداد مكانته باستمرار في المجتمعات الراهنة. ففرضُ ثقافة الأكثريّة على الآخرين عبر المقاربة الانصهاريّة أو الاستبداديّة، يُضعف شرعيّة الدولة والترابط الاجتماعي. لا بدّ من الأخذ أيضًا بالاعتبار، نظريّة توماس مارشال (1883-1981) حول "المواطنة الاجتماعيّة"، حيث يُشدّد على ارتباط الحقوق المدنيّة والحقوق السياسية، بالحقوق الاجتماعية؛ ما يَربط تحقُّق المواطنة، بتحقيق العدالة الاجتماعية. إذ يقول مارشال على سبيل المثال: "الحق في حرية التعبير، يَفقد معناه إذا، لسبب عدم توفر التربية، ليس لديك شيءٌ يستحق القول، لتعبّر عنه".

مع تأكيد أهميّة البعد الاجتماعي-التنموي في تحقيق المواطنة، لكنه من الضروري أيضًا الاعتبار أنّ التنوّع الثقافي، لغويًّا كان أم إثنيًّا، أم دينيًّا، وأصيلاً كان أم وافدًا، يحتاج إلى أن يجد في المواطنة مساحة للتعبير عن معالمه، والاعتراف بخصوصيّاتها، والتفاعل في ما بينها، لتشكيل هويّة وطنيّة جامعة، وشعور حقيقي بالانتماء للجماعة الوطنيّة من قِبَل جميع المواطنين. يقول يورغن هابرماس إنّه يجب استبدال القوميّة "بالوطنيّة الدستوريّة"، والانصهار بمشاركة المواطنين الفاعلة والمفتوحة في النقاش العامّ، على أساس التضامن والسيادة الشعبيّة. لذلك يُضيف هابرماس إلى الحقوق المدنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، الحقوق الثقافيّة، كَرُكن من أركان المواطنة.

ففي زمن نمو الهويّات الثقافيّة الخاصة، مع تراجُع الهويّات القوميّة، تبرز أهميّة الانتقال إلى نموذج "المواطنة الحاضنة للتنوّع". فبدل أن تضع الدولة-القوميّة نفسها في مواجهة الجماعات الثقافيّة، وتدفعها إلى عصبيّة جماعويّة للدفاع عن حقوقها، تُشكّل المواطنة الحاضنة للتنوّع، الإطار العامّ لتفاعل هذه الثقافات، ومساهمتها في تشكيل وحدة النسيج الاجتماعي، وغنى الهوية الوطنية الجامعة. فلقد اعتبَرَت منظمة اليونسكو التنوّع الثقافي مصدرًا في المجتمعات، للتبادل والتجديد والإبداع (الإعلان العالمي بشأن التنوّع الثقافي، 2001).

لقد شكّلت المواطنة عبر التاريخ، الدافع الرئيسي إلى الأنسنة والرقي الاجتماعي. لكن يبدو أنّه جاء الزمن لتبادل الأدوار، حيث تصبح الأنسنة المنفتحة على التنوّع الثقافي، دافعًا إلى انفتاح المواطنة على أفق جديد لها، يكمن في قدرتها على الاحتضان الديناميكي لهذا التنوّع. يقتضي ذلك استبدال الانصهار بالاعتراف بالتنوّع، وقبول الاختلاف، واستبدال التسامح السلبي -غير المبالي بخصوصيّة الآخر الثقافيّة-، بالشركة العابرة لمكوّنات المجتمع الثقافيّة، والتربية على هاتين القيمتين. أمّا الإدارة السياسيّة لذلك، فستكون حديث الخميس القادم.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2025
تصميم وتطوير Born Interactive
معلومات ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين التنقل في الموقع وتحليل استخدام الموقع والمساعدة في جهود التسويق. تحقق من سياسة ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا للحصول على التفاصيل.

إعدادات الخصوصية

حدد ملفات تعريف الارتباط التي تريد السماح بها. يمكنك تغيير هذه الإعدادات في أي وقت. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي هذا إلى عدم توفر بعض الوظائف. للحصول على معلومات حول حذف ملفات تعريف الارتباط، يرجى الرجوع إلى وظيفة المساعدة في المتصفح الخاص بك.
تعرف على المزيد حول ملفات تعريف الارتباط التي نستخدمها.

ضروري
وظائف
تحليلات
تسويق

هذا الموقع سوف:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • تذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • مح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

هذا الموقع الإلكتروني لن:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • يتذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • يسمح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

حفظ وإغلاق