من المفكرين من ذهب إلى استحالة الموضوعية واعتبرها بمرتبة "أسطورة"، نظرًا إلى صعوبة تحقيقها، والتباس المعرفة الإنسانية بعواطف الإنسان وخبراته وثقافته السائدة. فالإنسان يُلقي بهواجسه وأوهامه على طريقة فهمه وتفسيره للأشياء، ونحن لا نرى الأشياء كما هي في الواقع بقدر ما نراها من حيث علاقتها بنا وتفاعلنا معها.
من أسوأ آثار النزعة الذاتية في مستوى المعرفة الدينية الموضوعية، مشكلة التركيز على الأحكام قبل بناء التصورات وتبيّن الحقائق، وهو الأمر الذي يُجهض أي محاولة حقيقية للتعارف والتكامل بين أتباع الأديان والثقافات المختلفة. كما تمثِّل مشكلة التعميم في إطلاق الأحكام مرضًا عضالًا لدى كثير من أتباع الأديان، ويتجسد ذلك في بحثهم المحموم عن أسوأ أتباع الديانة الأخرى، وتعميم الحكم في جميع أتباع ذلك الدين في كل زمان ومكان.
النزوع نحو الذات وتمجيدها يَنتج منه قناعات وهمية، ما تلبث أن تصبح معياريّة تُعطِّل قدرة الإنسان على المعرفة. وعلى هذا الأساس، فإن التدين الذي يمثِّل انسياقًا أنانيًّا نحو الذات، وبحثًا محمومًا عن هوية استعلائية منفصلة عن محيطها الإنساني، يعيق تكوين أي معرفة موضوعية تجاه الأديان الأخرى، وهذا خِلاف التدين الحكيم الذي يأخذ العقل فيه دورًا مركزيًّا في عملية التدين، حيث يرى المعرفة ضرورة إنسانية وفريضة دينية.
من الأوهام السائدة التي تستحوذ على نفوس كثير من أتباع الأديان، تَغلغُل ذلك الشعور بالخوف الذي يجعل معرفة الأديان الأخرى تمثل تهديدًا خطيرًا للذات، واختراقًا عَقَدِيًّا منظَّمًا لتقويض أركان الحقيقة التي يؤمنون بها؛ وهذا ما يجعلهم أشبه بـ "دون كيخوتي" الذي تقوده هواجسه النبيلة ليتوهم الأعداء حتى في طواحين الهواء!
كلما تجردت النفس عن أوهامها ونزعاتها الغضبية، تصبح أكثر استعدادًا لبناء معرفة موضوعية تجاه الأديان الأخرى، ويؤكد القرآن ضرورة تحييد العواطف والمشاعر النفسية عند الحكم على الناس كما جاء في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة: 8]. فالنفس عندما تكون متأزِّمة فإنها لا ترى في الآخر سوى نقيضٍ مطلق وعدوٍّ متربص بها. فكل ذات تنضح بما فيها من أوهام وهواجس، كما في قصة الرجل الذي جاء إلى حكيم صوفي وقال له: يا سيدي، لقد رأيتك في المنام ورأسك رأس خنزير. فقال له: "يا بُنيَّ، أنا مِرآة الأكوان، وما رأيتَ إلا صورة نفسك".
وما نجده اليوم في بعض مفاصل المشهد الديني من "فجور في الخصام"، واتهام للمخالف، ووصمه بكل قبيحة ورذيلة، أنما يعبِّر عن أزمة أخلاقية ومعرفية عميقة لم تستطع مؤسساتنا التربوية والتعليمية معالجتها؛ أمَّا عندما تنضج الذات وتصبح "نفْسًا مطمئنة"، فإنها تلتمس الخير والفضيلة وتبتغي المعرفة في كل شيء، وتكون كمِرآة نقية مَجْلوّة تعكس الألوان جميعها دون استثناء. فالانفتاح على المعرفة الإنسانية يُخرج الذات من قشرة فردانيتها وعزلتها، ويضعها على مشارف الحقيقة واحترام التعددية الثقافية والدينية بكل أطيافها.
يمكن للعقل أن يبلغ الحد الممكن من الموضوعية عندما يملك الشجاعة لخوض غمار معرفة جديدة، ولكن عملية الفهم والتفسير تحتاج إلى أدوات معرفية إلى جانب تلك القيم الأخلاقية. فنحن في حاجة إلى "معرفة جوّانية" داخل نفوسنا، تعيننا على إقامة "معرفة برّانية" تنفعل فيها مدركاتنا الحسية والعقلية مع محيطنا الكوني العظيم، وأن تنسجم الحقائق الكونية الموضوعية مع حقيقة النفس.
كان اكتشاف الإنسان لخطأ المقولة القديمة التي زعمت أن الأرض هي مركز الكون، بمنزلة ثورة في علم الفلك والفضاء، لكننا اليوم ما نزال في حاجة إلى ثورة أخرى تعيننا على اكتشاف وَهْم "مركزية الذات"، التي تقبض على الحقيقة المطلقة، وتَحُول دون بناء معرفة موضوعية تجاه تراثنا الديني الإنساني.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.