على المستوى المبدئِي، لا يختلف كثيرًا موقف "المثقّف" النَّرجِسي، عن موقف التكفيري الداعشي. كلاهما يعتبران أنّ الحقيقة تسير وفق خط مستقيم وباتجاه واحد، وكلاهما يعتبران أنفسهما على رأس هذا الخط، والآخرين وراءهما، لكنَّ الاثنَيْن يختلفان في التعامل مع هذا الموقف. فالمثقّف يُعلن "تخلّف" الآخر وإن اعتمد ألفاظًا أكثر لطفًا في توصيف ذلك. فيبني هذا "المثقّف" نظريّته للعالم على أنّ الآخرين بقايا زائلة يجب محاصرتها وتهميشها، لكي لا تُؤثّر بنظره سلبًا في مسار الحقيقة وتقدّمها. أما التكفيري فُيشَيطن الآخر؛ لأنّه يحمّله مسؤوليّة تخلّفه، لرفضه اعتناق "الحقيقة الداعشية". لذلك، ينظر إليه من منظور ديني، وينعته بالشر أو "الشيطنة"، ويتحوّل بنظره إلى كافر، ومُهدِّد للحقيقة؛ ما يبرّر بالنسبة إليه تصفيته المعنويّة أو الجسديّة.
إنّ في هذا التوصيف القريب من الكاريكاتوري كثيرًا من الحقيقة الواقعيّة والمحزنة، بحيث ينتهي بعض الذين يُعتبرون من فئة الأكاديميّين و"المثقفين" إلى اعتماد مواقف تتناقض مع المبادئ التي يعملون من أجلها، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالتعامل مع الأديان والثقافات المختلفة في المجال العام؛ فيَبدُون وكأنّهم يقبلون حرية المعتقد وحرية التعبير على مضض، عندما تكون نتائج هذه الحرية الاعتراف بالاختلاف العميق في النظرة إلى الحياة بأبعادها الفردية والجماعية. في الواقع، أفرزت الإيديولوجية القومية الحداثوية بعض النخب المتطرّفة في نظرتها إلى الوجود، وفق معايير الديمقراطية القومية الانصهارية، التي برأيهم يجب أن تحتكر فلسفيًّا وقيميًّا تفسير المجال العام وتكوين الرأي العام أيضًا. في أغلب الأحيان، لا ينتبه هؤلاء الأشخاص لِما يكمن في موقفهم من خلل أساسي، نتيجة لحصر الاختلاف المقبول في الحياة العامة في السياسي، وإقصاء كل عنصر آخر من المعادلة.
تتلاقى هذه الإشكالية مع تنامي الشعبويّة السياسية في المجتمعات الغربية، والتي غالبًا ما ترتكز على عنصر الخوف من تنامي الوافدين من أصول عربية أو آسيوية إلى هذه المجتمعات. ولا يخفى على أحد أنّ الرهاب من الإسلام (الإسلاموفوبيا) يشكل أحد أبرز العوامل المنتجة للشعبويّة هناك. لذلك، كم هو مؤسف ودراماتيكي عندما ترى بعض النخب الاجتماعية الأوروبيّة تتعامل مع الإسلام وكأنّه حالة خارجية لا علاقة لها، لا بالمجال العام، ولا بالنسيج الاجتماعي لمجتمعاتهم. يُعبّرون بذلك عن عجزهم عن الاعتراف بالتعدّديّة المكوّنة لهذه المجتمعات، ويتمسّكون إمّا بالحنين إلى ماضٍ مُتَوهَّم "للنقاء" الثقافي أو الإثني لمجتمعهم، وإمّا بِوَهم الإيديولوجيا المكوّنة للأمة الوطنيّة ورموزها الثابتة.
في الواقع، تتولّد هذه النرجِسيّة الثقافية من التلاقي بين خللَين نفسيَّين وقِيميَّيْن. فهي وليدة التزاوج بين الشعور بالفوقية تجاه الآخرين من جهة، والخوف منهم من جهة أخرى، لاعتقاد النرجسي أنّ هؤلاء الآخرين يسعون إلى قلب المعادلة. فالنرجسي يُعجَب بذاتٍ وهميّة؛ لعدم قدرته على اللقاء مع الآخر الحقيقي الذي يُشاطره جزءًا من واقعه.
إنّ التعامل الإيجابي والبنّاء مع التعدّديّة الثقافيّة والدينيّة المكوّنة راهنًا لأغلبيّة المجتمعات، أصبح يُشكّل حاجة ملحّة بهدف ضمان الترابط الاجتماعي، واستقرار المجتمعات، واستدامة التنمية، عبر التفاعل الخلّاق بين مكوّنات هذه المجتمعات. كما أنّ التواصلَين الما بين ثقافي والما بين ديني يُشكّلان مهارة ضرورية لكل شخص يريد اليوم أن يلعب دورًا إيجابيًّا في الحياة العامة. ويبقى السؤال: من يُنقذ اليوم الناس من نرجِسيّتهم التي هي نتيجة خوفهم من الآخر، وفشلهم في التواصل معه؟ ومن يستطيع أن يقدّم للجماعات والأفراد هذه القدرة على التعامل الإيجابي مع الاختلاف؟ وما مقتضياته؟
برأيي، لن يتحقّق ذلك إلّا من خلال ثورة ثقافيّة تُعيد تشكيل المنظومة القيميّة في المجتمعات، بشكل متحرّر من الإيديولوجيّات القوميّة المنغلقة، ومنفتح على التطوّر المستمرّ الناتج من إشراك الجميع في بناء المجال العام ذي الأفق المفتوح. لن يكفي إصلاح السياسات والبرامج التربوية للوصول إلى هذه الغاية؛ إذ للمجتمع المدني، والجماعات الثقافية والدينية الخاصة، وللنخب الاجتماعية، دور أساسي في إيجاد الفرص التي تجمع الناس المختلفين والغرباء عن بعضهم بعضًا، في سياق الشراكة المجتمعيّة، وخدمة الصالح العام. لذلك، لقد أصبح مُلحًّا رفد القيم المدنية والسياسية كالحرية والعدالة، بقيم ذات بعد اجتماعي كالتضامن والتعاطف والأخوّة. ولهذا السبب، يأخذ اليوم هذا القولُ للمناضل الأميركي مارتن لوثر كنغ، أكثر من أي وقت مضى، كلَّ معناه: "علينا أن نتعلّم كيف نحيى معًا كإخوة، وإلّا سوف نموت سويّة كحمقى".
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.