وقف مُهاجِرُو مكَّة أمام "أَصْحَمَة" مَلِك أَكْسُوم (في شرق إقليم تغراي بإثيوبيا)، وأرواحهم تَتُوق إلى أمان مفقود، لم يجدوه في رَوابي قُرَيش. لقد قصدوه بعد أن حمل سادة مكة السلاح ضدهم، حينما مارسوا حرية الضمير واعتنقوا دينًا مختلفًا. كانت قريش تردِّد أن تبديل دين الآباء والأجداد، هو خطيئة تستوجب العقاب والموت؛ وهذا ما جعلها تُوغِل في تعذيب كل من بدل دينه. ومع اشتداد القمع والتضييق، أمرَهُم النبي محمد (ص) بالذهاب إلى الحبشة، حفاظًا على حياتهم. وحين شعر بخوفهم من المجهول، أخبرهم أنَّ بأرض أَكْسُوم ملكًا لا يُظلم عنده أحد. وها هم يقفون أمام الملك ينتظرون حكمه، راجين أن يَحظَوا بأمان يَقِيهم من الحرب المعلَنة ضدهم.
كان "أَصْحَمَة" الأُسْقُف المسيحي، والملك المبجَّل بين قومه وممالك زمانه، يستمع لوفد قريش وهم يحاولون استمالته إلى صفهم والتأثير في قراره. أخبروه بحديث مَفادُه أن معتنقي الدين الجديد ليسوا سوى ثُلَّة من مُثيري الفتنة، يدعون إلى تدمير الهوية الدينية لقريش، ويَسعَون لزعزعة الاستقرار في بطحاء مكة. حشدوا الكلمات والهدايا في بلاط القصر، محاولين هزيمة من هربوا من نيرانهم. لم تكن لِتَنطلِي على الملك تلك الحجج الواهية، وكان ينظر إلى جعفر ورفاقه بعين مختلفة. إنهم قوم قَدِموا بلا هدايا، يحملون قضية الحق في ممارسة دين ارتضَوه لأنفسهم. موقفهم يشبه موقف الجيل الأول ممن آمنوا برسالة المسيح، حين ناضلوا من أجل حرية الضمير. لكن، حينذاك لم يكن حول ممالك الظلم من طريق آمن يسلكونها، فدفعوا حياتهم ثمنًا لإيمانهم. لقد دار الزمن، وصار النجاشي يقف على ناصية حِصْنِ عدالة، فقدَتْها الكثير من الأنفس والممالك. كان يؤمن بأن مهمَّته تستلزم فتح أبواب العدل، لِيَحمي الإنسان من ظلم الإنسان. لقد كان مهاجرًا من الهوية الضيقة، إلى العدالة الإنسانية الواسعة.
لم يكن لِنجاشيِّ الحبشة أن يقبل انتهاك حقِّ إنسان في أرضه، حتى وإن كان مختلفًا في الدين. كان يؤمن بأن العدل للحياة أساس، وكمال الإيمان بالله هو خط ممتدّ يتجلَّى فيه الإيمان بحقوق البشر، وكان يدرك أن مفردة الإيمان نفسها لا تعني سوى الأمن والأمان. ها هو ينهض أمام الجميع، لِيُعلن لحظة الفصل في مصير المؤمنين الجُدُد. قال بصوت ملأ التاريخ والإنسان: "اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي". كان لهذه الكلمات أثرٌ امتد من أكسوم إلى مكة، وترك في حلقات الزمن درسَ عدلٍ مغمور بالنبل والمحبة، لا نزال نقف إجلالًا له إلى هذه اللحظة.
تلك صورة بديعة من صور التضامن الإنساني الجميل، العابر للأديان والجغرافيا. لا يكفي أن نتذكرها فقط، بل الأهم أن نمتثل معانيها في حياتنا اليومية، لنقتفي أثرَي العدل والإنسانية المتجلِّيَيْن في هذا الموقف.
على الرغم من الاستهجان الذي نُبديه حين نتذكر موقف وفد قريش، إلَّا أننا ما زلنا نردد ونعيد الكثير من أقوالهم وأفعالهم، ضد من يمارس حرية الضمير كأفراد ومجتمع، فنقمع حرية الآخرين، ونمارس في حقهم المواقف اليومية المتشنجة، ثم ندَّعي أننا على درب العدل نمضي. نقضي حياتنا كقُضاة، ونمنح مَن يُشبهنا فكرًا ودينًا وثيقة الخلاص، وننزعها ممن يخالفنا. نؤمن بأن الله وحده هو من يقضي بشأن علاقة الإنسان به، ثم نُنصِّب أنفسنا ناطقين باسمه. وبدلًا من عيش الأمان ونشر الخير والنفع بين كل الناس، نصرف حياتنا تائهين في محاكم ذواتنا الداخلية، التي نقيمها لمن حولنا؛ فنكتشف في نهاية المطاف أن مساحة السجن الذي عمرناه في الداخل، قد الْتَهم كل مظاهر الحياة في أرواحنا، ثم يتحول العدل الذي ندَّعيه أو نناضل من أجله، إلى مادة غير مرئية تنحسر يومًا بعد يوم. فمع الطرد اليومي لهذه القيمة من حياتنا ومواقفنا، تهاجر بعيدًا عنا، أو بالأحرى نختفي نحن من أمامها، ونصبح في صحاري الظلم ماكثين، حاملين سِياط كلماتنا وأفعالنا، في وجه من يصلِّي بطريقة مخالفة لصلاتنا.
الهجرة إلى العدل لا تقتضي الانتقال من أرض إلى أرض، بل هي العبور من حظوظ النفس والأنا، إلى العمل على حماية الإنسان وتَبنِّي قضاياه، وحفظ حريته وكرامته. ذلك ما يجعل الانسان عادلاً كنجاشي، ويجعل من قلوبنا مدن محبة كأكسوم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.