شكَّل كتاب (المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل) للمفكر الفرنسي "إدغار موران"، والذي جرَى نشره برعاية اليونسكو، حدثًا معرفيًّا بارزًا، بين أهمية بناء معرفة جديدة كشرط أساسي لنمط جديد من التربية الحاضنة لشروط السلم، والتماسك الاجتماعي في المجتمعات الحديثة. قراءتي لهذا "البيان"، جعلتني أقتنع بأن هذه المعارف السبع يمكن أن تشكِّل أيضًا مدخلًا من أجل بناء معرفة دينية جديدة، تُعتبر في نظري أساس بناء مجتمعات جديدة، تجعل من الاعتراف بالآخر وقبول التعدد الديني، قيمًا مركزية وقادرة على تطوير التأويلات الإيجابية لتراثاتها الدينية.
ينطلق الكِتاب من نقد المنظومات التربوية التي تساهم في أزمة التواصل بين الثقافات، بسبب عجزها عن إدماج "تعقيد" الشرط الإنساني في برامج التربية والتعليم، وبسبب نزوعها نحو التبسيط والوثوقية. ويقترح إدغار موران سبعة مبادئ لبناء ما يسميه وَحْدة المعرفة الجديدة:
- تعليم الوعي بـ"العمى المعرفي"، أي نزوع المعرفة الطبيعي نحو الخطأ والوهم.
- تعليم "المعرفة الشمولية والمترابطة".
- تعليم "الشرط الإنساني"، أي الطابع المركب للهوية الإنسانية بصفتها هوية مشتركة.
- تعليم "الهوية الأرضية"، أي الانتماء المشترك إلى الأرض.
- تعليم "لَايَقِينيَّة المعرفة".
- تعليم "الفهم" بصفته وسيلة التواصل الإنساني وغايته.
- تعليم "أخلاق الجنس البشري"، من خلال الانسجام بين الأبعاد الإنسانية الثلاثة: الفرد، والمجتمع، والنوع.
كيف يمكننا أن نحوِّل هذه التعَلُّمات إلى تعاليم، أو إلى ميثاق أخلاق دينية كونية، من أجل تجاوُز تشوُّهات المعرفة الدينية؟ وكيف نجعل عقائدنا الدينية جزءًا من مشروع البشرية الأساسي؟ برأيي، قد يحصل ذلك بالخطوات الآتية:
1- أخلاق نقد الذات: من واجب كل متَّبِعِي الأديان الانخراط في تفكيك بُؤَر "العمى الديني"، أي في التحليل والدراسة للتأويلات الخاطئة والأوهام الدينية، التي تحوِّل الأديان إلى "هويات قاتلة"، وأيضًا في البناء لثقافة الاعتراف بالخطأ. يقول رسول الإسلام: "كلُّ بني آدَم خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون".
2- أخلاق الترابط الكلي: من واجب الأديان، أن تعي أنها تشكِّل منظومة مترابطة الأجزاء، فتصبح التعددية دليلًا على تعقيد العالم، الذي يعني بالنسبة إلى المؤمنين حكمة الله اللامتناهية، والتي تُحجب عنا بسبب محدودية أفهامنا. نقرأ في القرآن: {ما تَرَى في خَلْقِ الرحمن مِن تَفاوُتٍ}، ونلاحظ ارتباط الجزء بالكل، والكل بالجزء: {مَن قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قَتل النّاسَ جَميعًا ومَن أحيَاها فكأنّما أحيَا النّاسَ جميعًا}.
3- أخلاق الوَحْدة والتعدد: من واجب الأديان أن تعي العلاقة بين الوحدة والتنوع، بين المشترك بين الأديان وفرادة كل دين، بدل التركيز فقط على الاختلافات المطلقة، التي تجعل فِعل التواصل مستحيلًا. نقرأ في القرآن: {يا أيُّها الناس اتَّقوا ربَّكم الذي خلقَكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زَوجَها وبثَّ منهُما رجالًا كثيرًا ونساءً}.
4- أخلاق "قدسية الأرض": من واجب الأديان أن تُدْرِج التوازنات الكونية كجزء من المسؤولية الدينية المشركة (الإنسان كخليفة لله)، ومِن ثَمَّ فإن مفهوم الخلاص المشترك، ينطلق من مبدأ الأمانة التي كُلِّف بها الإنسان، ومن الإنسان الحرام إلى الأرض الحرام: {ولقد مكنَّاكُم في الأرض وجعلنا لكُم فيها معايشَ}.
5- أخلاق التواضع: من واجب الأديان أن تضع اليقينيَّات في سياقاتها النسبية والذاتية والتاريخية، وأن تطوِّر داخل أنساقها اللاهوتية نوعًا من النسبية الإيجابية، كي تحمي المجموعات الدينية من خطر الانقياد للعنف والتطرف. يقول القرآن: {وما أُوتِيتُم مِن العِلْمِ إلَّا قليلًا}.
6- أخلاق التعاطف: يجب على الأديان أن تُغيِّر طريقة فهم بعضها لِبعض، للتخلص من نزعة التمركز حول الذات وتزكيتها، من أجل تعميق الفهم الإنساني بينها على أساس الحوار: {يا أيُّها الناسُ إنَّا خلَقناكُم مِن ذكرٍ وأنثى وجعلناكُم شعوبًا وقبائلَ لتعارفُوا إنَّ أَكرَمَكُم عِند الله أَتقاكُم}.
7- أخلاق الدِّين المَدَنِيّ: يجب على الأديان أن تُعلِّم معتنقيها الترابط بين قناعات الأفراد الدينية، ومسؤوليتهم في العيش معًا، من خلال العَقد الاجتماعي، وقبول قيم المواطنة والديمقراطية، أي الخير العام.
الحقُّ أنّ العالَم ليس مجرد قاعة انتظار، للعبور إلى مَلَكُوت الرب؛ فقد يكون العالَم هو ملكوت الرب عينه! يقول "هانز كونغ" إنه لا سلام في العالم بدون سلام بين الأديان، وأقول إنه لا سلام بين الأديان بدون تربية دينية جديدة: {إِنَّ الله لا يغيِّر ما بقَومٍ حتَّى يغَيِّرُوا ما بأَنفُسهم}.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.