لم ينتبه العالم العربي والإسلامي لتلك الفقرة الصغيرة في دستور تونس ما بعد الثورة (دستور 2014)، والتي تنص على المساواة بين الرجل والمرأة. مرَّت تلك "المساواة" دون ضجة، عربيًّا على الأقل، لكن كان يكفي أن يعلن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في 13 آب/أغسطس 2017 أن "المساواة بين الرجل والمرأة التي أقرّها الدستور يجب أن تشمل جميع المجالات بما فيها المساواة في الإرث"، حتى يندلع الجدل في الخارج قبل الداخل.
لم يمرّ الأمر على أنه "شأن داخلي"، مثل أي قرار في مصلحة المرأة يصدر في عيد المرأة، التي دأبت تونس على الاحتفال به منذ ستِّين عامًا إحياءً لمجلة الأحوال الشخصية (مجموعة قوانين اجتماعية أعلنها الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في 13 آب 1956)، بل أصبح شأنًا "يهدد المجتمعات الإسلامية" مثلما وصفه الأزهر.
المساواة في الإرث بدأت تزعج بعض المؤسسات الدينية خارج تونس مع أنها لم تتبلور كقانون بعد، بل ما تزال مقترحًا من السبسي، مقترح جاء تجاوبًا مع مقترح تقدمَت بها أقدم منظمة نسائية في تونس: اتحاد المرأة، التي سبقت الرئيس بأيام لتعلن: "المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة قابلة للتنفيذ في تونس طبقًا للدستور وقانون القضاء على العنف ضد المرأة".
سِتّون عامًا وتونس تجدد الأحكام الإسلامية، غير مكترثة بجمود العالم الإسلامي من هذه الناحية. إنها تكاد تكون خاصِّيّة تونسية: مجتمعٌ منَع تعدد الزوجات قبل ستين عامًا، ومنع الطلاق الشفوي وأقرّ الطلاق المدني، ومنح مَن وُلد من أب غير تونسي الجنسيةَ التونسية.
لكن رغم هذا التجديد والقوانين المدنية في تونس، تبقى المساواة في الإرث تحديدًا موضوعًا شائكًا لم يجرؤ حتى بورقيبة على فرضها، ونقول فَرْضها لأن بورقيبة لم يَعرض منع تعدد الزوجات على البرلمان للتصويت عليه، بل أعلن القانون من جانب واحد (قبل انتخاب برلمان) تحسُّبًا لأيّ محاولة رفض في ذلك الوقت.
المثير في مقترح المساواة في الإرث الذي تقدم به السبسي أنه لاقى ترحيب دار الإفتاء التونسية، فيما رفضه الأزهر رفضًا قاطعًا في بيانَين متعاقبين أصدرهما في أسبوع واحد. الأزهر وإن لم يكن المرجعية الدينية للتونسيين إذْ لديهم دار إفتاء خاصة بهم، إلا أنه مؤسسة دينية لها وزنها في العالم الإسلامي، ورأيه في موضوع المساواة في تونس سيكون مرجعية لعدد من رجال الدين الرافضين للمساواة.
ولم يأتِ مقترح المساواة في الإرث منفردًا، بل صاحبه إعلان تونس عزمها سنّ قانون يسمح بالزواج من غير المسلم، توافقًا مع روح الدستور الذي ينص على المساواة بين الجنسين، وعلى اعتبار أن قانون عام 1973 الذي يمنع التونسية من الزواج بغير المسلم "خطأ قانوني".
استبق الرئيس التونسي احتداد الجدل الديني قائلًا: "الإرث ليست مسألة دينية وإنما تتعلق بالبشر، والله ورسوله ترَكَا المسألة للبشر للتصرف فيها"، لكن الأزهر وجَّه رسالة إلى السبسي يقول فيها: "دعوات التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث تظلم المرأة ولا تنصفها وتتصادم مع أحكام شريعة الإسلام".
الحقيقة، أنا كامرأة لا أفهم ما الذي يعنيه الأزهر بأن "المساواة تظلم المرأة"! هل تَعوُّد استضعاف المرأة يصبح عنصر "قوة" لها مثلًا؟
أيًّا كان تبرير الأزهر لهذه النقطة بالذات والتي سمعت شبابًا يرددونها على مسامعي دون فهم معناها، لا يمكن لعاقل أن ينزّل المساواة منزلة الظلم.
ولو ناقشنا مسألة المساواة من باب الاجتهاد، فهناك تيار في تونس يؤمن بأن العبادات كالصلاة والصوم ليست قابلة للنقاش، ويؤمن بأن مسألة الإرث بابُ الاجتهاد فيها مفتوح، والزواج بغير المسلم حرية شخصية في بلد فيه الآلاف من السيدات تزوجن بغير مسلمين. وهناك تيار آخر يعارض حتى المفتي في موافقته على المساواة في الإرث، مطالبًا إياه بالاستقالة.
لكن، ماذا لو قرأنا القرآن قراءة متأنية وأدركنا غاياته؟ ألم يتكرر العدل مرارًا في القرآن؟ ألم تكن المساواة قيمة مهمة في الدين الإسلامي برُمَّته؟ لماذا التشبث بآية "للذَّكر مثل حظُّ الأنثَيَين" (والتي تتحمَّل تفسيرات عدة)، وإسقاط آية تنص على قطع يد السارق ورجم الزاني والزانية؟ لماذا يساوي القرآن بين الرجل والمرأة في العقاب، ويعاملها دونه في الميراث؟
إن كانت أحكام القرآن كليةً لا تحتمل الاجتهاد كما يقول الأزهر، فلماذا لا تطبِّق مصر اليوم قطع يد السارق ورجم الزاني؟ أليس لأن العصر الحديث لا يقبل هذه الأحكام؟ لماذا اجتثاث هذه الأحكام والإبقاء على آيتَي الميراث والزواج بغير المسلم؟
تكرار "أفلا يعقلون" في القرآن، أليس دعوةً إلى إعمال العقل؟ بعد 1400 عام من ظهور الإسلام، ألا يستحق اليوم الاجتهاد في تجديد أحكامه، ورفع الظلم المسلَّط على النساء؟
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.