"السُّنَّة مَا يْعيشُون بدون الشِّيعة، والشِّيعة مَا يْعيشُون بدون السُّنّة". بهذه العبارة البسيطة والعَفويّة، كانت تُدير الخالة عائشة الكثير من المواقف، التي قد تَشحن النفوس وتؤدِّي إلى خلافات بين جاراتها ومعارفها، من الطائفَتَين السُّنِّيّة والشِّيعيّة في الأحساء.
لِمَن لا يَعرف الأحساء، عليه أن يزور هذه الواحة العتيقة في شرق المملكة، فيأكل من تمرها، ويَنعم بصحبة أهلها، ويشمّ عبَق التاريخ فيها، حيث يميِّزها عن سائر المناطق سكَنُ الأكثريّة من الطائفَتَين الشِّيعيّة والسُّنِّيّة، بالإضافة إلى وجود المراكز العلمية المتعددة من المدارس الفِقهيّة (الحَنْبليّة والمالِكيّة والشافعيّة والحَنَفِيّة)، وكان يُطلق عليها قديمًا "أَزْهَرُ الخليج". ويُعرَف عن أهل الأحساء تَآلُفُهم ونُضجهم في احترام هذا التنوع وتثمينه، مع تمسُّكهم بمذاهبهم ومدارسهم دون تعصُّب وتشنُّج وإقصاءٍ للآخر. فلم يكن هذا التنوُّع والتعدُّد سببًا لتوتُّر المِنطقة، واشتغال الناس بالصِّراعات فيها؛ بل على العكس، فهم يَتجاورون ويتزاوجون ويُتاجرون مع بعضهم بعضًا.
تُخبرني صديقتي "الحَساويّة"، بأن خالتها عائشة منذ حوالي أربعين سنة كانت تذهب إلى صائغ ذهب معروف من الطائفة الشِّيعية، وكان يأتمنها على مجموعة من الذهب والجَواهر، لتأخذها معها إلى بيتها وتختار منها ما يعجبها هي وصديقاتها، ثم تُعيد الباقي إليه وتَدفع ثمن ما أخذَت. وما زالت صديقتي وأهلها -وهم من الطائفة السُّنِّيّة- يذهبون إلى الصائغ نفسِه، ويتعاملون معه، ويَستوصي ويُوصي خيرًا بهم.
ربَّما تبدو القصة عاديّة وطبيعية. لكن، لو أخذنا بالاعتبار المادِّيّةَ التي غزَت الحياة والعلاقات الإنسانية، بالإضافة إلى الصراعات الطائفية التي تَعجُّ بها المِنطقة، وتسعى لإثارة النَّعَرات والفتن بين السُّنة والشِّيعة، لَاسْتَوقفَتنا هذه القصة المُربِّيَة والهادفة، والتي تُثبت أن كلَّ تلك العوائق لم تَحُلْ دون استمرار الصائغ في ائتمان الخالة عائشة وثِقَتِه بها، وهي بدورها لم تتوقَّف عن التعامل معه وتكريمه، فلم يكن اختلاف الطائفة حاجزًا لكِلَيهما.
قصَّة الخالة عائشة والصائغ، نموذج راقٍ وبعيد عن كلِّ التعقيدات والحسابات، التي تفرِّقنا ولا تجمعنا. فالخالة لم تتنازل عن معتقدها، والصائغ لم يتنازل أيضًا عن معتقده، ولو قدَّمَا سوء الظن في معاملاتهما، لمَا نشأت هذه الرابطة الأخلاقية الإيجابية، التي يمكن أن تَحلَّ الكثير من الإشكالات في مجتمعاتنا. كلُّنا بإمكاننا أن نكون كالخالة عائشة والصائغ، ونصنع نماذج وقصصًا مُرَبِّيَة ومُلهمة.
يَضرب أهل الأحساء أيضًا في كثير من المواقف الصعبة والأزمات، نماذج رائعة وليست مستغربة من قيم العيش معًا. أحدها يتمثَّل بردِّ فِعل أهل الأحساء تجاه حادثة التفجير الإرهابي قُبيل سنوات، الذي استهدف حُسينيّة في قرية الدالوة في يوم عاشوراء، حيث استنكر المجتمع الأحسائي بكافة طوائفه الحادثة، وشيَّعوا الشهداء معًا رافعين شعار "إخوان سنة وشِيعَهْ، هذا الوطن مَا نْبِيعَهْ". ولعدَّة أيام بعد الحادث، توجَّه العديد من أبناء الطائفة السُّنّة إلى الصلاة في مساجد الشيعة، لإظهار اللحمة بينهم، وتحدِّي المحرِّضين على الإرهاب والطائفية.
هذا النُّضج المجتمعي في التعامل مع الآخر المختلف، والتنوع المذهبي والطائفي في الأحساء، ليس بجديد عليها، بل ربما لو بحثنا في التاريخ أكثر، لوجدناه ضاربًا في ذاكرة المجتمع الأحسائي، ومكوِّنًا من مكوِّنات ثقافته. وذلك ينطبق أيضًا على مناطق أخرى في المملكة، والتي يَكثر فيها تنوُّع الأجناس والأعراق والمذاهب كالحِجاز مثلًا. وقد شجَّعَتني كتابة هذا المقال، على البحث أكثر عن هذا الإرث التاريخي، الغنيِّ بقيم التآلف والتعاضد في مجتمعنا الكبير، والمتميِّز بالتنوُّع والتعددية. لأنه –ويا للأسف- قَلَّما يَجري تسليطُ الضوء على مثل هذه القصص واستثمارُها، وهو الأهمُّ في تعزيز قيم السلام والعيش معًا. فقد قدَّر الله منذ الأزل ألَّا يجعل الناس أُمَّة واحدة، ولذلك سيبقى الناس مختلفين ومتنوِّعين في أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم، ولِلَّهِ عزَّ وجلَّ الحكمةُ البالغة في هذا التقدير. ويبقى على الأفراد والمجتمعات مسؤوليّةُ اختيار الطريق الأمثل للعيش مع هذا القدَر، ليكون التنوُّع مَصدر ثراءٍ وتَعلُّم من الآخر وتعاوُن، بدلًا من أن يكون مَصدر نزاع وشقاء لِلجميع. لذلك، علينا جميعًا أن نجتهد في تعزيز المشترَكات مع الآخرين، ولا نَغرق أكثرَ في تصنيفهم والعزلة عنهم، أيًّا كان ما نختلف فيه وعليه. فما يَجمعنا دومًا أكثر.
أخيرًا أقول للخالة عائشة: لم تكُوني بعبارتك "السُّنَّة مَا يْعيشُون بدون الشِّيعة، والشِّيعة مَايْعيشُون بدون السُّنّة"، تُحجِّمين من الخلافات وتَمنعينَها أحيانًا، بل أنا واثقة بأنك طيّبتِ قلوب الكثيرين بها، وغمَرْتِها بالحب والرحمة تجاه بعضنا بعضًا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.