لم يُفاجَأ المُتابِعون لقضية الهجرة، بانسحاب المَجَر من ميثاق الأمم المتَّحِدة حول الهجرة. وبكثير من التسامُح، مَرّ تصريح وزير خارجيّتها بأن "الميثاق يشكِّل خطرًا على العالم"، مُرورَ الكرام، وكأنه مبارَكة لسياسة حكومة المَجَر اليمينيّة المُعادية للمهاجرين، التي لم تتردَّد قبل ثلاث سنوات في تسْيِيج حدودها بالأسلاك الشائكة، لقطع الطريق أمام اللاجئين.
اِصطفَّت المَجر إذن خلف ظهر ترامب، مستَقويَةً بتصريحاته العَدائيَّة تجاه المهاجرين. ترامب الذي أعلن قبل أشهر انسحابَ بلاده من المفاوضات حول ميثاق الهجرة، لم يتردّد في فصل أطفال "المهاجرين غير الشرعيِّين" عن ذويهم، ووضعِهم في أقفاص حديديّة، مُتنصِّلًا من الأعراف الإنسانية والأخلاقية.
رغم البُعد غير الإلزامي لميثاق الهجرة، إلّا أنه يمثِّل الحدَّ الأدنى من التضامن الدولي مع المهاجرين، ورغم مِثاليّة شعاره: "من المُهمّ أن توحِّدنا الهجرة بدلًا من أن تقسِّمنا"، إلّا أنه يجسِّد بالدرجة الأولى، رغبةَ الدول الحاضنة للمهاجرين في تجاوُز خلافاتها بشأن الهجرة، بعد أن تقاذفَت مسؤوليةَ وصول "المهاجرين غير الشرعيِّين" إلى أراضيها.
ينصُّ ميثاق الهجرة الأُمَمِيّ، الذي سيَجري تبنِّيه رسميًّا في مؤتمر يُعقد في المغرب في ديسمبر/كانون الأول القادم، على الدفاع عن حقوق الإنسان والأطفال، والاعتراف بالسيادة الوطنية للدول الحاضنة للمهاجرين، ويقترح مجموعة إجراءات لمساعدة الدول على "التصدِّي للهجرة غير الشرعية". فما الذي سيقدِّمه هذا الميثاق "غير المُلزِم" أصلًا لمن تقطَّعَت بهم السُّبل، بعد أن هربوا من أوطان مزَّقَتْها الحروب أو الفقر أو الديكتاتورية؟ إقرار الميثاق بأن الهجرة جزء من التجربة الإنسانية عبْر التاريخ، ومَصدرٌ للازدهار والابتكار والتنمية المستدامة في العالم، لا يمثِّل ضامِنةً للمهاجرين، بل خارطة طريق للتنسيق بين الدول.
سِتُّون ألف مهاجر قَضَوا منذ عام 2000 في البحر أو الصحراء أثناء محاولاتهم بلوغ "أرض الأحلام"، و600 شخص لَقُوا حتفهم في الأسابيع الأربعة الأخيرة بحسب المنظمة الدولية للهجرة، حين أبحروا في البحر الأبيض المتوسط باتجاه الشواطئ الأوروبية. لماذا ماتوا؟ بسبب غياب المراكب المخصَّصة لعمليات الإنقاذ، وبسبب منْع حكوماتٍ أوروبية عمليات إنقاذ، أرادت منظَّماتٌ غير حكومية القيام بها في البحر المتوسط.
هذه الممارسات "الرّسمية والعلنية" من قِبل حكومات منتخَبة، لا تقلُّ عن ممارسات حكومات ديكتاتورية، يهرُب منها المهاجر حالِمًا ببلوغ أراضٍ أكثر رحمةً بالإنسان. تلك الحكومات التي لا يزعجها بقاءُ سُفن إغاثة المهاجرين تائهةً في عُرْض البحر، ومَنْعُها من الرُّسوِّ في موانئها، هي ذاتُها التي شاركت في وضع ميثاق الهجرة الأُمَمِيّ، مُقدِّمةً مصالحها على كرامة البشر وسلامتهم.
الحكومات التي اقترحَت على دول شمال أفريقيا احتضان "مراكز فَرْز" لِلَّاجئين خارج التراب الأوروبي، شبيهةٍ بالغِيتُوَات في ألمانيا النازيّة، هي ذاتُها التي تَشترط على دول شمال أفريقيا، تحسين الديمقراطية والحرّيات قبل الحصول على مساعدات. والحكومات التي تريد إنشاء مراكز تجميع لطالبي اللجوء شبيهةٍ بالسجون، هي ذاتُها التي تُحاضر في كرامة الإنسان المهدورة في الأنظمة الديكتاتورية، وهي ذاتها التي تَذرِف الدموع حين يُباع المهاجر، في دولة في الضِّفَّة الجنوبية للبحر المتوسط.
الرئيس الفرنسي السيد ماكرون، الذي احتضن بكثير من الفخر لاعبي منتخب بلاده ذوي الأصول الأفريقية، وسواعدُهم السُّمْر ترفع كأس العالم في روسيا، هو ماكرون ذاته، الذي دافع بشدة قبل أشهر عن ترحيل المهاجرين في "كاليه"، ثم رفَض المساعدة التي تقدِّمها منظَّمات اللجوء لمهاجرين غير قانونيِّين، متَّهمًا إيّاها بنشر "معلومات خاطئة".
نحن أمام أكثر الخطابات نِفاقًا حين يتعلَّق الأمر بالمهاجرين وطالبي اللجوء، خطابات تتقاطع فيها مُفردات "الدفاع عن حقوق الإنسان"، مع مفردات "الرَّدع" و"الترحيل". الخطابات المنادية بالفصل بين طالبي اللجوء والمهاجرين الاقتصاديِّين، والملوِّحة بتمشيط مراكز اللجوء، لِلبحث عن أولئك الذين لا يَحملون أوراق إثبات هُوِيّة، خطاباتٌ مَلْأى بالفظاظة، ومُنتهِكةٌ لكرامة الإنسان، ومشجِّعة لتنامي العَداء تجاه الأجانب. أمّا الاحتجاج بتنامي "الهجرة غير الشرعية"، لتشديد إجراءات ترحيل المهاجرين وطالبي اللجوء، فيتناقض مع الإحصائيات التي تؤكد تراجُع الهجرة غير الشرعية، منذ بداية 2016 بنسبة 95% بحسب المنظمة الدولية للهجرة.
هناك تقصير إنساني فاضح في تعامل الحكومات مع الهجرة، وازدواجيّة مُخجلة في معاملة "المهاجرين غير الشرعيين". من جهة يُلقَى بهم في البحار، ومن جهة ثانية تَبقى أرصدة مُهرِّبي المهاجرين مُكتَنَزة في المصارف الأوروبية، بل إنّ سُلُطات في جنوب المتوسط، تسمح للمُهرِّبين بالسيطرة على أجزاء منها، ولا تتردَّد في التعاون مع الإرهابيِّين لتقويض الاستقرار، بعِلم حكومات أوروبية.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.