ها قد أصبح لمدينة تونس "شيختها". والشيخة هنا ليست مؤنَّث رجل الدين، بل هي مؤنَّث يُستحدث لأوّل مرَّة لِـ"شيخ المدينة"، اللقب الذي يُطلق على مَنصب رئيس بلديّة العاصمة تونس، مَنصب بقي حكرًا على أعيان المدينة وعلى الرجال لِقَرن ونصف.
كان لِفَوز سعاد عبد الرحيم برئاسة بلديّة تونس، ونَيلِها لقب "شيخة المدينة"، الذي لم تَسْبقها إليه أيُّ تونسيّة، منذ تأسيس النظام البلدي في تونس عام 1859، طعمُ انتصارٍ شخصيٍّ لي. فلقد كسرَت هذه الصَّيدلانيَّةُ القادمة من قرية في الجنوب، قِلاعَ ثقافةٍ بالِيَة، بل تكاد تكون عنصريَّة.
"بانت سُعاد" لتَكسر هذا الاحتكار الاجتماعي والذُّكوري مرّة واحدة.
لا أبالغ في القول إني تقبَّلتُ فوز سعاد بكثير من الفرح والفخر، وبكثير من التجرُّد من الحسابات الحزبية. سعاد التي تنتمي إلى حزب ذي مرجِعيّة دينية، قد لا أتَّفق معها أيديولوجيًّا ولا سياسيًّا، وسبق أن انتقدتُها حين أعلَنَت وهي وزيرة، معارضتَها لإصدار تشريع لحماية الأمهات العازبات. لكني تقبَّلتُ كتونسية وامرأة وعلمانية، فوزَها بشيء من الانتشاء؛ لأَنِّي أحيِّي رغبتها في كسب الرهان، على قدرة المرأة على تحمُّل المسؤولية، وعلى العمل السياسي الميداني، وأقدِّر رغبتها في تصحيح أخطائها السابقة. حتى إنّ حزبَها ذا المرجِعيّة الدينية تَعلَّم من أخطائه، وشارك في منح النساء حقوقًا مدنية، بل وعبَّر عن استعداده لمناقشة مقترحات ثوريّة لتطوير الحرّيات الفرديّة والمساواة.
فوزُ سعاد عبد الرحيم، التي اختارها حزب النهضة الإسلامي لتَرْأس قائمتَه في العاصمة، وراهن عليها لتصبح أوّل رئيسة بلديّة لها، لا يُعتبر انتصارًا للنهضة فقط، بل هو انتصار للمرأة أيًّا كانت انتماءاتها الحزبية والفكرية والاجتماعية. هو انتصار للنساء في تونس، بل لجميع النساء العربيّات؛ لأنه يمنحهنّ قسطًا إضافيًّا من الثقة بالنفس، والرغبة في تخطِّي المعوقات، وكسرِ كلِّ العِصِيِّ التي وُضعت في دواليب عرَبات النساء حتى تبقى رابضة في مكانها.
سعاد عبد الرحيم التي فازت في الانتخابات البلديّة بالاقتراع المباشر، كان عليها أن تنتظر أيضًا الاقتراع غير المباشر، ممثَّلًا بأعضاء المجلس البلدي يوم 3 يوليو/تموز 2018، حتى تصبح رئيسة بلديّة تونس. أمّا منافسها كمال إيدير من حزب (نداء تونس) العلماني الحاكم، فلم يكن هيِّنًا، ولديه مؤهِّلات تجعله منافسًا شرسًا لها. فهو أستاذ جامعي يُدرِّس الصَّيدلة، وخبير لدى البنك الدولي، وكان رئيس أعرقِ فريقٍ لكرة القدم في تونس، ومقرُّه المدينة العتيقة (النادي الأفريقي)؛ ما يوفِّر له قاعدة شعبية لا يُستهان بها.
اِنتصار سعاد جاء أيضًا لكسر الصور النمطية عن الأحزاب، ولكشف ثقافة ذكوريّة إقصائيّة، لدى أحزاب أنهكتنا بخطاباتها عن فكرها التقدمي والحَداثي. فها هو حزبٌ دينيّ يراهن على امرأة لتترَأَّس بلديّة العاصمة، بعكس حِزبَي (نداء تونس) العلماني و(الجبهة الشعبية) اليساري، اللَّذَين لم يُرشِّحا امرأة على رأس قوائمهما في العاصمة، وحافظا على ثقافة جندرية احتكارية إقصائية في قلاع العاصمة، بما يتناقض والنَّفَسَ الإصلاحي، بل الثوري، الذي تعيشه تونس منذ الثورة.
محاولات التقليل من قيمة المرشَّحات كانت عديدة في الحملات الانتخابية، حين انتقدَت جهاتٌ سياسية ترشيح عبد الرحيم للمنصب؛ "لأنه يتعارض" مع "التقاليد الإسلامية والبروتوكولية". والمقصود هنا مشاركتها المحتملة في حال فوزها، في احتفالات ليلة القدر التي يَحضرها رئيس الدولة، بجوار رئيس بلدية تونس في جامع الزيتونة.
الحملة الانتخابية أيضًا لم تَخلُ من ظواهر عنف سياسي ضد النساء، وأساليب تمييزيّة قدَّمَت المرأة لا كمرشَّحة ومنافسة جِدِّيّة لها كفاءة وقدرة على تحمُّل المسؤولية، بل بصورة دونيَّة ركّزَت على شكلها. بل حتى الخطاب الإعلامي كان مشحونًا بالصور النمطية التي تستخفُّ بالنساء، فجاء تقديم المرشَّحات بِلُغة فيها إسفاف وسخف: "هذه مرشَّحة بجِينز ممزَّق"، و"هذه الشقراء"، و"تلك الفاتنة الصغيرة"... حتى إنّ ترَشُّح سعاد التاريخي، لم يُعالَج بما يستحقُّ من الجِدِّيّة. فجرى التركيز على أنها "مرشَّحة غير محجَّبة لحزب إسلامي"، وهو وصفٌ نمطيّ شكلي سطحي.
حضور النساء الكثيف في المجالس البلديّة بنسبة 47.7%، لم يكن برغبة من الأحزاب، بل كان بفضل قانون المناصفة، الذي فرض حضورهنَّ في القوائم الانتخابية. وحضور سعاد وأخواتها على رأس ستِّين بلديّة، قد يؤسِّس لَبِنةً جديدة لمعالجة مشاكل الأُسَر المتفاقمة بعد الثورة. فهل ينجحن في كسر جيوب الفقر التي توسَّعَت؟ وكيف سيضعن خبراتهن لخدمة المواطنين ولمعالجة هشاشة النساء في المناطق الريفيّة، حيث ترتفع نسب الأُمِّيّة والفقر والتهميش؟
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.