في مثل هذه الأيام "المفترجة" من كل عام على مدار السنوات الست الماضية، تشهد مواقع التواصل حالة تعدٍّ صارخ. هؤلاء ينعتون أولئك بـ"الخرفان"، وأولئك يلقبون هؤلاء بـ"المنبطحين"، وفرقة تنعت هؤلاء وأولئك بـ"الجهلة المغيبين"، وزمرة تصب جام غضبها الاقتصادي وقهرها الاجتماعي على الجميع، ومجموعات شاردة تتوقف قليلاً لتوزع صكوكًا ربانية، أو تتوعد بغضب سماوي، وتهدد بالانتقام من كل اختلاف.
السنوات الست الماضية شهدت بدء تحميل الشرق الأوسط الجديد، وفي أقوال أخرى هبوب رياح التغيير، وفي قول ثالث كشفت عوارًا عربيًّا صريحًا، وأيقظت فِتنًا شرق أوسطية كانت في غيبوبة قسرية؛ وذلك بفعل ديكتاتوريات صارخة وأنظمة فاسدة، وحَّدَت الملل وجمعت الطوائف تحت راية "القهر للجميع". وحيث إن عملية التحميل ما زالت جارية، ومخططات إعادة الترسيم دائرة رحاها، فإن الزوابع الأيديولوجية والاحتقانات الفكرية والالتهابات العقائدية تدور رحاها على مدار اليوم.
أيام الثورة المصرية الـ 18 (بين يومي 25 كانون ثاني/يناير)، و11 شباط /فبراير 2011)، لم تكشف فقط عن جماعات دينية تجذرت، وأحزاب سياسية تحجرت، وأنظمة سياسية تحللت، وأدمغة شعبية تجرفت؛ لكنها أزالت الستار عن قيمة مفهوم التعددية في الثقافة المصرية. مصر التي كانت تزهو حتى عقود قليلة مضت، بأن مدنها كوزموبوليتانية، وعاداتها خليط من ثقافات كثيرة مضت، وتقاليدها منها ما هو فرعوني، ومنها ما ينتمي إلى الأديان السماوية الثلاثة في خليط مدني رائع، وشعبها معتاد الاختلاف ولا يفسد الخلاف لوده قضية، كشفت عن وجه كاره للتعدد، مائل للتطابق، يهفو إلى الاستنساخ، يتشكك في الاختلاف، ولا يعتبر الألوان المغايرة للونه إلا محاولات للتخريب، ومناوشات للتشتيت، ومؤامرات للتهديد، ومخططات إِمَّا لهدم الدولة، أو معاداة الدين، أو تقسيم الأرض، أو النيل من العرض، أو جميعها.
"فايسبوك" و"تويتر"، ساحتان متخمتان في هذا الأوان بكم هائل من الرفض للآخر، والسخرية منه، والتسفيه لرأيه، والتحقير لموقفه، بل ومعايرته بالجهل والغباء حينًا، والخيانة والعمالة حينًا، والتسبب في إغراق البلاد وخسارة العباد على طول الخط. فالخط الواضح الواحد الوحيد هو ذلك الذي تنتهجه جماعات الإسلام السياسي، حيث تمتلك الحق الأوحد، وترتكز على السلطة المنفردة، وتهيمن على الدنيا بادعاء امتلاك الحقيقة الواحدة التي لا ثاني لها، والتفسير الأوحد الذي لا يحتمل نقدًا أو رفضًا أو اعتراضًا، وتضمن الآخرة بصكوك الغفران. هذا الخط المدمر والنهج المخرب، لا يُحاسَب عليه مَن اتبعوه أو اعتنقوه أو أمسكوا بتلابيبه في زمن عزَّت فيه التلابيب؛ بل يحاسَب عليه من أهملوا التعليم وتناسوا الصحة وتجاهلوا العدالة الاجتماعية، حتى أفسحوا المجال لنشوء وتمكُّن وتوَغُّل دولة "دينية" موازية للدولة الأصلية.
أبناء هذه الدولة الموازية يملأون الدنيا صخبًا في هذه "الأيام المفترجة"، حيث يؤمنون كل الإيمان بأن جماعات الإسلام السياسية هي من ضمنت نجاح ثورة يناير، واستحقت أن تصل إلى سدّة الحكم، وتعرضت للخيانة، وتلقت ضربة في الظهر بانقلاب الشعب عليها تحت رعاية الجيش. هم يصدقون كل التصديق بأن رفض قطاعات عريضة من الشعب لحكمهم، هو رفض للدين، وخروج على الملة، وكفر بما أنزل الله من آيات. ولهذا يسميهم قطاع آخر من الشعب بـ"الخرفان"، على سبيل السخرية من اتِّباعهم سياسة القطيع، وإلغاء العقل وترديد "آمين" على كل ما يصدر عن قياداتهم الدينية سابقًا (السياسية حاليًّا). هذا القطاع الرافض لمحبي وأتباع جماعات الإسلام السياسي، أبعد ما يكون في مكوناته عن التناغم أو التكامل، بل العكس هو الصحيح. فمنهم من يعشق الرئيس ولا يقبل في حقه انتقادًا، ولا يستوعب أن البشر- بمن فيهم الرئيس- خطَّاؤون. ورغم التقارب في الفكر، والتطابق في رفض انتقاد الذات الرئاسية، والكوادر الدينية السياسية، إلا أن كلاً منهما يرفض الآخر ويضمر له العداء، ويتمنى أن يستيقظ صباحًا فلا يجده في البلاد.
قطاع آخر من رافضي الحكم الديني، هو القطاع الثوري، وليس الحزبي أو السياسي أو حتى الفكري. أبناء هذا التوجه أدمنوا الفكر الثوري دائمًا وأبدًا، ولهم في ذلك تبريرات ولديهم أسباب. لكنَّ أحدًا غيرهم لا يعرفها؛ لأنه لا يسمح لهم بالنقاش، ولا يفسح لهم المجال. وفي خضمّ هذه الجزيئات المتشابهة نظريًّا، المتنافرة فعليًّا، هناك جزيئات أخرى تكتفي بمتابعة المشهد المتضارب، وتضرب كفًا بكف. فقد بات الجميع يصرّ على حذف الدال، والاكتفاء بالتعدِّي دون التعدُّدِية.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.