انشغلت وتنشغل المؤسّسات الإعلاميّة في هذه الأيام بحدث زيارة البابا فرنسيس لمصر، وخاصة للأزهر الشريف، من جهة، وبالانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة، والتنافس بين المرشحَين مكرون ولوبن، من جهة أخرى. أرغب هنا في قراءة هذين الحدثين، لأعالج انطلاقًا منهما ما أُسمّيه "المسؤوليّة الاجتماعيّة للأديان".
باختصار لقد طالب شيخ الأزهر في كلمته، التي ألقاها لدى استقباله للبابا، بعدم اعتبار "الإسلام دين إرهاب، بسبب أنّ طائفة من المؤمنين به سارعوا لاختطاف بعض نصوصه، وأوّلوها تأويلًا فاسدًا، ثم راحوا يسفكون بها الدماء ويقتلون الأبرياء، ويُروّعون الآمنين، ويعيثون في الأرض فسادًا". وأكّد أنّ الأزهر لا يزال "يسعى من أجل التعاون في مجال الدعوة، إلى ترسيخ فلسفة العيش المشترك، وإحياء منهج الحوار، واحترام عقائد الآخرين".
بدوره، قال البابا فرنسيس بأنّ "الإيمان الحقيقي يقود إلى عيش ثقافة اللقاء والحوار والاحترام والأخوَّة، فلا نرى في الآخر عدوًّا يجب هزيمته، بل أخًا لنحبّه". وأضاف: "لنعلن معًا عدم انسجام الإيمان مع العنف والحقد. ولنعلن معًا قدسيّة كلّ حياة بشريّة".
على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسّط، تتوجّس مؤسّسات دينيّة مسيحيّة من وصول مرشّحة اليمين المتطرّف مارين لوبن إلى موقع رئاسة الجمهوريّة الفرنسيّة، وتجهد في إيجاد السبل المناسبة لمواجهة هذا الخطر. فقد أصدر مجلس أساقفة فرنسا، الذي يمثّل السلطة العليا للكنيسة الفرنسيّة، بيانًا أكد فيه دعم الكنيسة لموقفين سياسيَّين، يتعارضان مباشرة مع برنامج مرشحة اليمين المتطرف لوبن، دون أن يذكرها البيان بالاسم. فلقد أكّد التضامن مع اللاجئين، ودعا فرنسا إلى قبول استقبال عشرات الآلاف منهم ودمجهم في المجتمع، كما تبنّى البيان الدفاع بشدّة عن التضامن الأوروبي. وعلى المستوى الشعبي، أصدرت اثنتان وثلاثون جمعيّة مسيحيّة بيانًا مشتركًا، أكّدت فيه تعارض القيم المسيحيّة مع سياسات التقوقع والعنصريّة، داعية إلى دعم سياسة احترام التنوّع، والانفتاح على الآخر، والتضامن معه.
انطلاقًا من هذين المثلين، حيث يواجِه الأول العنف والإرهاب باسم الدين، والثاني التقوقع والعنصرية باسم الهوية القوميّة وحتى الدينيّة، نرى أنّ الأديان مدفوعة إلى اتخاذ المواقف الواضحة، إما لتبرئة نفسها من مثل هذه الانحرافات، أو لتوجيه أتباعها نحو الخيارات المسؤولة، ونهيهم عن المواقف المنحرفة وغير المنسجمة مع قيم الدين وتعاليمه.
لكننا نلاحظ أيضًا أنّ هذه المواقف الدينيّة، المتعلّقة بإشكاليّات سياسيّة، تبقى خجولة في تسمية الأشياء بأسمائها، وتقتصر إمّا على الدفاع عن النفس، أو على الإرشاد، وفق المبادئ العامة للدين، دون الدخول في حيثيّات المسألة السياسيّة وتفاصيلها. ولكن السؤال يبقى: ألا يكمن الشيطان في التفاصيل؟ إنّه لمن الجرأة بمكان، أن يعترف شيخ الأزهر بأنّ المنتمين إلى داعش هم من المؤمنين بالإسلام، واعتبارهم أنّهم ضلّوا السبيل في تفسير الدين وتطبيقه. ولذلك يرفض الأزهر "تكفيرهم"، لكي لا يُمارس منهجهم.
صحيح أن حدود دور الدين في الحياة العامة، تقف عند حدود الخطاب. فيحقّ للمؤسّسة الدينيّة أن تتوجّه إلى أتباعها، وترشدهم، وتنير ضمائرهم، ليقوموا بخيارات سياسية منسجمة مع مبادئ دينهم. لكنها لا تستطيع أن تفرض عليهم هذه الخيارات، احترامًا لحريتهم، وحرمة ضميرهم. ولكن هل هذا يعني أنّه يمكن أن يكون المرء مسلمًا ومتطرّفًا إرهابيًّا، أو أن يكون مسيحيًّا ومتطرّفًا فاشيًّا؟ هل احترام حريّة أتباعه تُحظّر على الدين رسم حدود واضحة، بخطوط حُمْرٍ تُظهر الشروط المعياريّة للانتماء إلى هذا الدين وللبقاء فيه؟ التحدّي هنا مزدوج. فهو يقتضي من ناحية، جرأةً من المؤسّسة الدينيّة الرسميّة لتحديد المعايير القيميّة "للعضوية" في جماعتها، وهذه مسألة شائكة. ومن ناحية أخرى، أنْ تعتبر المؤسّسةُ الدينيّة سلامةَ الشهادة على المستوى الاجتماعي، أهمَّ من عدد المنتسبين إليها.
إنّ المسؤوليّة الاجتماعيّة للأديان تتعدّى صوابيّة الخطاب الرسمي، والدعوة العامة إلى تبنّي قيم التضامن والعيش المشترك. إنّها مسؤوليّة تجاه تصرّفات أتباعها، خاصة عندما تنبع مواقفهم من فهمهم للدين، وترتبط بمنابر ومؤسّسات تحمل اسم هذا الدين. في هذه الحالة، لا يعود يكفي الشجب أو التبرؤ من التصرفات، بل المسؤوليّة تتطلّب توضيح المعايير، وتحديد خطوط الجماعة الحُمْر. غالبًا ما يتردّد المسؤولون الدينيّون في اتخاذ هذه المواقف، تجنُّبًا للمواجهة مع بعض التيارات الدينيّة الداخليّة، ومهادنةً لها. لكن كلفة تجنّب الحزم، أكبر بكثير من المواجهة مع بعض المنحرفين أو المتشدّدين. والمشكلة أن هذه الكلفة، يدفعها الدين والمجتمع على حدّ سواء.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.