يُقال إن الجريمة قديمة بقِدم البشرية، بل ويُستدلُّ على قِدم الجريمة بقصة قايين وهابيل، التي يوردها سِفر التكوين في العهد القديم، والتي وردت على نحو مُشابه في القرآن؛ ليُقال: حتى الإنسان الأول بحسب الرواية الدينية، قام بقتل أخيه.
تَطوَّر تعامل المجتمع الإنساني مع الجريمة، وسادت على مدى قرون طويلة عقوبةُ قتل القاتل أو الإعدام، التي تعددت أشكالها. وربما تكُون شريعة حمورابي أشهر شريعة قديمة، قالت بوجوب قتل القاتل، وبأن يكون العقاب من جنس الجريمة.
في القرن الماضي، بدأ نضال مدني وحقوقي ينادي بالغاء عقوبة الإعدام، وُصولًا إلى مطلع قرننا الحالي في سنة 2001، مع إعلان ستراسبورغ الذي شكَّل نداءً من قِبل 15 رئيس برلمان، من أجل "تعليق تنفيذ أحكام الإعدام بدون تأخير في كلِّ أنحاء العالم"؛ على اعتبار أن هذه العقوبة تَنتهك أحد أكثر حقوق الإنسان بديهيّة، وهو الحقُّ في الحياة.
منذ ذلك الحين، النقاش الشعبي حول هذه العقوبة يتجدد، خاصة حين تُرتكب جريمة جنائية أو إرهابية ما، فيستفظع الناس وجود مَن يَجرُؤ على ارتكابها، ويطالبون بإعدام المرتكب "ليكون عِبرة لمن يعتبر". في المقابل، ينبري رافضُو هذه العقوبة ليُعلنوا رفضهم للإعدام، مع استنكارهم للجريمة المرتكبة. وتَشهد لقاءات الأقرباء والأصدقاء، وساحات مواقع التواصل الاجتماعي، جدالات تبدأ ولا تنتهي حول هذه الموضوع. وكثيرًا ما يكون الدِّين هو المُستدعَى الأول للحضور في حُجج هذا الطرف أو ذاك.
من الناحية الدينية، وبالعودة إلى قصة قايين وهابيل في سِفر التكوين، نرى أن الله نفسه، لم يحكم بالموت على قايين مرتكب جريمة القتل الأولى. وكنَسيًّا، سبَق للبابا فرنسيس أنْ صرَّح بأن عقوبة الإعدام غير مقبولة، وأن الكنيسة الكاثوليكية ستعمل على إلغاء هذه العقوبة. وفي تصريح مقتضَب وشديد الوضوح، منسوب إلى البطريرك الروسي الأسبق ألكسي الثاني: "الإعدام قتلٌ عمْد والكنيسة ضده"، يتضح أنّ موقف الكنيسة من العقوبة ليس مَحلُّ جدَل. أمّا إسلاميًّا، فلا يمكن تجاهل أصوات تقول، بأن عقوبة الإسلام ليست عقوبةً صالحة لكل زمان ومكان، وأن التحقق من عدالة المحاكمات المؤدية إلى هذه العقوبة أمرٌ غير ممكن، ومِن ثَمَّ لا يمكن قبول هذه العقوبة غير العَكوسة.
أصلُ هذا الرفض لعقوبة الإعدام، هو الرغبة في صون "الكرامة الإنسانية"، بالمعنى الذي وردت فيه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مِن أنها سِمة لَصِيقة بالإنسان منذ ولادته، وتتساوى في الوجود عند كل البشر من دون أيِّ استثناء. فالكرامة هي أصل كلِّ حقوق الإنسان، التي هي من حقِّ كلِّ إنسان على الدوام، وليست مِنَّة من أحد أو مكافأةً، لِقاءَ السلوك الجيد.
كلُّ الحُجج الأخرى المستخدَمة في معارضة عقوبة الإعدام، هي حجج -على أحقِّيَّتها- تأتي ثانية في المرتبة، مِن بعد حجة الحفاظ على الكرامة الإنسانية وصيانتها. هذه الحُجج الأخرى -تورِد منظمة العفو الدولية بعضها-، التي تَردُّ على حُجج مقابلة تؤيِّد تنفيذ عقوبة الإعدام، تفيد بأن عقوبة الإعدام غير مقبولة لأنها عقوبة غير عَكوسة، أيْ لا يمكن التراجع عنها والتعويض على من طُبِّقت عليه خطأً. وسِجلّات السجون وملفّات المحاكم، تزخر بحالات حُكم فيها بالإعدام، ليتبيَّن لاحقًا خطأ القاضي أو ضعف الدليل أو بروز وقائع جديدة، إذ لا يمكن للنظام القضائي تفادي إدانة أبرياء عن طريق الخطأ.
أيضًا وثَّقت منظمات حقوقية، حالات استخدام القضاء والقانون لعقوبة الإعدام بطريقة جائرة، ولأغراض سياسية، بهدف التخلص من الخصوم والمعارضين بطريقة تبدو مقبولة، مع العلم أن الفقراء ومتوسِّطي الحال معرَّضون أكثر لهذه العقوبة، لعجزهم عن توكيل مُحامين بارزين قد يستطيعون تخفيف عقوبات جرائمهم؛ ما يعني أنّ مال الغني يَقِيه الإعدام، وفَقْر الفقير يلفُّ حبل المشنقة حول رقبته.
المثير للاهتمام أن منظمة العفو الدولية، حقَّقَت أنه لا دليل يؤكِّد قدرة عقوبة الإعدام على ردع المجرمين، أكثر من عقوبة السجن المؤبَّد. وذلك عكسُ الحجة الرئيسة لمؤيدي الإعدام بأنّه: "ردع لِلمجرمين وتحقيق لِلأمن". فالدول التي ألْغت عقوبة الإعدام، أو أقلّهُ أوقفت تنفيذها، لم تشهد ارتفاعًا في معدَّلات الجرائم، حسب ما يقول مَنطق الردع، مع التأكيد أن للمجرمين عقوبات يجب أن تكون عادلة ومطبَّقة، بعيدًا عن الإعدام. ولكن، حتى لو ضُمنَت جدلًا أن تكون كلُّ المحاكمات عادلة وغير مُسيَّسة، والعقوبة رادعة، يبقى الإعدام عقوبة غير مقبولة، لانتهاكها الكرامة الإنسانية.
رفضُ التنوع قد يعني في العمق عدم الاعتراف بكرامة الآخر، وبأنه ذو كرامة وحقوق وعلى سَوِيَّة واحدة معنا في ذلك. وبهذا المعنى، يكون الرَّفض قتلًا للآخر، وحطًّا من كرامته. والأمر نفسه يقود إلى تأييد عقوبة الإعدام، والمناداة بتطبيقها.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.